hit counter script
شريط الأحداث

"أبو غيث" يحلم بحياة أفضل ..عبر "زوارق الموت"

الثلاثاء ١٥ تشرين الأول ٢٠١٥ - 11:07

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

في عينّي «أبي غيث» تاريخ من الهدوء والحكمة وصفاء ما عاد معهوداً، وفي حركته الدائمة حاضر مربك وخوف والأكثر منهما غضب.
في باحة المدرسة القديمة التقيناه، زعمنا أنها صدفة. لكنّ فعلياً ما كان اللقاء ليحدث لولا إصرار زوجته ابتسام إبنة الثلاثين ربيعاً. أرادت من يساعدها على إقناعه بالعدول عن فكرة الهجرة عبر البحر إلى دولة أوروبية، لكنّه بقي مصرّاً.
لـ «أبي غيث» وابتسام ولدان: غيث وعمره تسع سنوات وليلى وعمرها ست. كانت العائلة تعيش في حماه حيث كان الأبوان يدرّسان مادة الكيمياء في إحدى المدارس. ومع اشتداد المعارك هربت العائلة إلى ست مناطق مختلفة في سوريا في غضون ثلاث سنوات. ما كان يقبل «أبو غيث» بالنزوح إلى لبنان أو غيره من البلدان المجاورة، وقد فضّل العمل اليومي على تسجيل اسمه على لوائح «المفوضية العليا لشؤون اللاجئين»، «لأن تلك اللوائح لا يجب في الأصل أن تحوي أسماء أشخاص ينتمون إلى الطبقة الوسطى». لا يعترف الرجل بالطبقيّة لكنه يرفض الواقع المرير الذي حوّله من أستاذ في مدرسة خاصة «براتب محترم»، إلى مياوم يرجو أرباب العمل المساعدة في أعمال النجارة أو العمار أو التنجيد أو غيرها. تروي الزوجة أنه كان يحلم دائماً بأن يرتاد الأولاد الجامعات الخاصة في الولايات المتحدة الأميركية، كالـ «MIT» و «Yale» وغيرهما. وكان قد أنشأ لهذا الأمر حساباً مصرفياً خاصاً ، كان يطلق عليه إسم «حساب المهندس والدكتورة». لكن الحرب أتت على أحلامه وأرغمته على تحويل الحساب إلى مصروف الهجرة. تلك التي خطط لها لأيام عديدة قبل أن يبلغ زوجته بما ينوي فعله.
تروي ابتسام أنها قبل نحو شهر، باتت تشعر أن زوجها كثير الشرود وعصبّي ويفضّل العزلة على الاجتماع بالعائلة. ظنّت بداية أنه طرد من عمله أو أنه اضطرّ إلى الاستدانة وبات مطالباً بمبالغ مالية، او أنه متوعك صحياً... لم تفهم ما في باله الّا حين واجهها بالحقيقة التي وجدتها أمرّ من كلّ ما سبق. قالت: ظننته يمزح لكنّ سرعان ما تأكدت من نواياه وقد وضعني أمام خيارين لا ثالث لهما «إمّا أن نركب البحر للهجرة من تركيا أو لبنان في مراكب الهجرة غير الشرعية واللجوء إلى أي من الدول الأوروبية، أو في حال ممانعتي الشديدة، أبقى أنا وليلى إما في لبنان أو في تركيا، ويهاجر مع غيث على أن نلتقي بعد تسوية أوضاعهما».
تقول ابتسام أنها أرادت أن تصفعه بشدّة، فهي شعرت أنه غير مؤتمن على روحي ولديه. لكنّها بدلاً من ذلك أجهشت في البكاء وراحت تخفي بيديها غيث وليلى وكأنه يريد أن يأخذهما في تلك اللحظة. شعرت أن الموت يقترب من عائلتها وأن الوضع السوري متأزم لدرجة أن فرص الحياة ما عادت تتخطى الواحد في المئة. وهو راح يهزّها بشدّة ويقول لها «إصحِ، ماذا نفعل؟ ننتظر أن يسوء وضعنا أكثر؟ ما توافقنا على هذا. نحن ما أردنا تلك الحياة لا لنا ولا لأبنائنا. الا تلاحظين أن فرص العيش بكرامة معدومة هنا؟ لا أريد مساعدة من أحد ولا أن يمنني بلقمة العيش أحد. نحن نخاطر يومياً بحياتنا، فلماذا لا نخاطر مرّة واحدة علّنا نعاود التأسيس لمستقبل أفضل لولدينا».
تستعيد ابتسام تلك المشاهد وكأنها حدثت قبل ليلة. هي فعلياً لم تحدث الا قبل أقل من شهر تقريباً. أي قبل لجوء العائلة إلى لبنان بأربعة أيام. وقد دخلت خلسة من إحدى الطرق الشمالية، حيث حاولت السفر عبر أحد القوارب، لكنّ المال لم يكن كافياً.
تؤكد ابتسام أنها دعت كثيراً كي لا يوفق زوجها بمركب، وقد حاولت نهيه ومازالت إلى اليوم، راجية إياه تسجيل العائلة على لوائح المفوضية كي يصار إلى اختيارها للهجرة شرعياً. لكنّه ما زال مصرّاً على خطّته. قال: «لن تعمد المفوضية إلى تسجيلنا لأن الحكومة اللبنانية ترفض هذا الأمر، فنحن لا وضع إنسانيا لنا. وإن تمّ تسجيلنا فعلينا الانتظار طويلاً قبل اختيارنا للهجرة».
لم يرض «أبو غيث» أن يقدّم أي معلومة تخصّ مراكب الهجرة غير الشرعية. هو حتى لم يرد أن يناقش خطتّه مع أحد. حتى أنه حين تلينا على مسامعه بعض القصص المؤلمة التي سجّلتها المفوضية عبر موقعها الإلكتروني نقلاً عن الصحافة الأجنبية، أصرّ أن الإعلام يظهّر تلك القصص خدمة للدول الأوروبية التي تريد الحدّ من الهجرة غير الشرعية.
وأفاد أنه يعمل اليوم في لبنان لاستكمال المبلغ المطلوب لهجرة العائلة. وقد استدرك قائلاً: «أعرف تماماً أن في البحر خطر الموت، لكنّه يحدق بنا على الأرض أيضاً. فعلياً لا أفق للحلّ في سوريا حتى الساعة، وأنا إن أنفقت مدخراتي على إقامتي في لبنان سأتحوّل إلى نازح ينتظر شهرياً 13 دولاراً لإطعام أولاده، فلماذا لا أنفقها في رحلة توصلني إلى حياة أفضل». وقبل أن يدير ظهره ويرحل خاتماً حديثا لم يعد يحبّ مناقشته، قال: «سيّدتي، أنا لا أسعى وراء لقمة العيش أنا أبحث عن العيش بكرامة».

(السفير، 13/10/2015، ص4)

  • شارك الخبر