hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - صقر أبو فخر

تجار وأموال وأوبئة

الأربعاء ١٥ تشرين الأول ٢٠١٥ - 07:13

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

في أواخر أربعينيات القرن العشرين، أرسلت الأمم المتحدة مجموعة من خبرائها إلى الخليج العربي، لمكافحة الجراد الذي غطّى، آنذاك، رمال المنطقة. لكن الشيوخ والأهالي طردوا أولئك الخبراء الذين يجهلون أن الجراد يعتبر طعاماً لذيذاً للسكان، ولأن تلك المنطقة لا توجد فيها أشجار أو مزروعات يُخشى عليها من فتك الجراد. هذا هو بالضبط ديدن "الخبراء" في دول العالم الثالث قاطبة، فالأمم المتحدة، مثلاً، أو المؤسسات الدولية المشابهة، ترصد أموالاً لمساعدة الدول الفقيرة، ثم ترسل "خبراءها" لصرف هذه الأموال، فيستأثرون بستين في المئة منها رواتب ونفقات، وتستولي السلطات المحلية على الباقي. وهذا ما جرى في الهند، بعد الاستقلال في سنة 1947، حين استقدمت حكومتها خبراء غربيين لوضع خطة تنمية طويلة الأجل. وطفق هؤلاء يجمعون المعلومات الرقمية عن ثروات الهند، فاكتشفوا أن في الهند 250 مليون بقرة، وعشرة مليارات من الجرذان والقوارض، وملايين القرود. وهداهم تفكيرهم الميكانيكي الذي يفتقد النباهة إلى الاستنتاج التالي: إن 250 مليون بقرة تعني نصف بقرة لكل هندي (كان عدد السكان 500 مليون)، أو ثلاث بقرات للعائلة الواحدة، وهذه ثروة غير بسيطة. ويمكن إنشاء مزارع أبقار رأسمالية تجمع الروث للاستفادة منه سماداً زراعياً، ومصانع لإنتاج الأجبان والألبان من حليبها، ومعامل لتصنيع لحومها وجلودها، فضلاً عن استعمالها في الجر والحراثة، ما يوفر فرص عمل كثيرة جداً للهنود، ودخلاً مرتفعاً من شأنه أن يحل مشكلة الفقر في الهند خلال عشرين سنة. وتستطيع الهند، في ما لو قضت على القوارض والجرذان والقرود، أن توفر ملايين الأطنان من الحبوب والثمار والمزروعات التي تفتك بها هذه المخلوقات.
حين عُرضت هذه الأفكار والخطط الاقتصادية على جواهر لال نهرو (أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال)، رماها على الأرض، وأبلغ إلى الخبراء أن هذه الأفكار غبية، ما دام من المحال تنفيذها. فالأبقار والقرود والجرذان مقدسة لدى معظم الهنود، وسيثور الهنود ثورةً عارمة بالسلاح في ما لو تجرأ الحاكم على مس هذه المخلوقات، ولن يكون في إمكان أي سلطة إلا السقوط بعصي الناس في الميادين، أو ارتكاب مجازر مروِّعة بحق المواطنين على طريقة ستالين (أو بول بوت لاحقاً) لتنفيذ خطط صماء من هذا الطراز، لا تأخذ في الحسبان الدين والعقائد والموروث الثقافي.
يذكِّرنا المثال الهندي بما وقع في الصين، أيضاً، في زمن "الثورة الثقافية" الفاشلة التي أطلقها ماوتسي تونغ. فقد تقدم أحد "الخبراء" باقتراح "عبقري"، ينص على أن يقتل كل صيني طائراً من فصيلة الدوري، فيُقضى خلال شهور على هذا الطائر الذي يخرّب المزروعات ويتلف الثمار. وتبارى الصينيون في قتل هذا الطائر المسكين، ليكتشفوا، في ما بعد، أن غلال المواسم قاربت الكارثة، لأن ديدان الأرض التي كان طائر الدوري يأكلها، فتكت بالمواسم الزراعية، وأتلفت معظمها.
الدوري هو الاسم الحركي لنا، نحن العرب. أما بعض المؤسسات الدولية فهي القوارض والجرذان التي تفتك بنا حقاً. ومثالاً، أكدت منظمة "أطباء بلا حدود"، غير مرة، أن نحو 60% من الأدوية التي أُرسلت إلى البوسنة والهرسك، إبّان الحرب، كانت غير صالحة، وأن المتبرعين بها وفروا ملايين الدولارات، وهي تكلفة التخلص منها. والمعروف أن مصانع غربية كثيرة، قبيل انتهاء صلاحية منتجاتها، تبدأ في توضيب المواد الغذائية والأدوية لطمرها، فيأتي تجار شطار (لبنانيون وعراقيون وقريباً سوريون)، فيأخذون تلك المواد مجاناً، وفوقها تكلفة النقل والطمر، فينقلونها إلى مستودعاتهم، ثم إلى بطون المستهلكين بعد تغيير تاريخ انتهاء الصلاحية... وهات يا سرطان. ويقولون لنا إن الله هو الشافي، فإذا كان الله هو الشافي (وهذا صحيح)، فلماذا يأخذ الطبيب الأجر إذاً؟ -العربي الجديد
 

  • شارك الخبر