hit counter script
شريط الأحداث

أوروبا تستنفر لمواجهة "ثورة اللاجئين"

السبت ١٥ أيلول ٢٠١٥ - 11:29

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

 (السفير، 19/9/2015، ص8)

أمام الواقع الحالي، يمكن فقط لأجهزة الاستخبارات رصد الاحتقان الذي تنقله الخطوط الساخنة. زعماء الاتحاد الأوروبي سيعقدون قمة طارئة، يوم الأربعاء المقبل، في محاولة لإيجاد حل مشترك «لأزمة اللاجئين». هكذا يسمونها، مع أنها تزيد انكشاف الأزمة داخل الاتحاد الأوروبي ذاته. باتت الدول الأوروبية تتقاذف المشكلة مثل كرة اللهب، من يد الى أخرى، وبأسرع ما يمكن: فلتؤذ الآخرين.. ولكن لن أتركها تحرقني!
كرواتيا ترفض استدارة السيل باتجاهها، بعدما صدته المجر بإغلاق الحدود مع صربيا. نكاية، وعجزاً، سارعت حكومة زغرب الى توجيه السيل مجدداً في حدودها مع المجر، لتسارع الأخيرة بدورها في بناء سياج عازل كالذي أتمّته مع صربيا. سلوفينيا أعلنت فرض الرقابة الحدودية. بدروها ترفض أن يأتيها السيل من كرواتيا، حتى لو كان طريقه إلى النمسا ثم «الحلم الألماني».
تقنيات تنصّت أجهزة الاستخبارات ليست في المتناول، لتبقى المخيلة خياراً لا بأس به لاعتراض الاتصالات. جهاز اعتراضها رصد هذه المكالمة الهاتفية بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند. كانا يتباحثان حول كيفية فرض «تقاسم أعباء» اللاجئين، أو سياسة «الحصص الإلزامية»، على معكسر رفض يقوده رئيس وزراء المجر فيكتور أوروبان، مع بولندا والتشيك وسلوفاكيا. الحوار متخيّل، لكنه مبني حول الخلافات المعروفة ومعطياتها متصلة:
ـ هولاند: أعرف أن وضعك الداخلي ليس بأفضل حال، لكن ما كان ينبغي أن تقولي «نستطيع إدارة الأزمة»، ثم تعودين بعد أقل من اسبوع لتقولي «لا نستطيع إدراتها». يبدو أن النقاش لن ينفع مع أوروبان وأصحابه، ما رأيك؟
ـ ميركل: هذا جنون تام، هل رأيت الصور التي انتشرت في العالم! هل هذه هي الصورة التي نريدها عن الاتحاد الأوروبي، أطفال رُضَّع يختنقون بالغازت! حسناً، لا أعرف، سنرى الأربعاء. (وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر) شتاينمار أوصل لهم رسالة واضحة، إذا لم يقبلوا حصص لاجئين سنتخلى عن التوافق ونصوّت بالغالبية. لا نستطيع القول: هذه ليست مشكلتنا وندير ظهرنا. نصفُهم سوريون!
ـ هولاند: أعرف، أعرف ما تقصدين. لكن لا تحملونا المسؤولية، سمعتهم حينما قالوا: فلتتفضل فرنسا وبريطانيا لحلّ الأزمة بما أنهما منخرطتان في الحرب السورية. على كل حال، أتوقع من وزيرة دفاعكم (أرسولا فان دير لين) كلاماً أكثر ديبلوماسية، ما كان ينبغي أن تقول «لا يوجد تقريباً أي معارضة معتدلة بعد الآن»، فيما نحن نبذل كل جهدنا للإقناع بالعكس. لا تفعلوا ما يريده الروس!
ـ ميركل: أرجوك أترك روسيا جانباً الآن، دعنا ننتهي الآن من هذه الأزمة، إذا لم نحصل على تسوية جيدة علينا التصويت بالغالبية، علينا إيجاد حل حقيقي، أنت تعرف أن إغلاق الحدود لن ينفع، هؤلاء هاربون من حرب ولن ييأسوا!
انتهت المحادثة المتخيلة. لكن الأوروبيين يعرفون تماماً ما الذي يواجهونه. سيل اللاجئين تحول إلى ثورة إنسانية بكل معنى الكملة. السوريون لم يُكتب لهم عيش ثورة سلمية كهذه، مع هذا التأثير، على أرضهم: الكاميرات حولهم في كل لحظة، صورة أي حادث قمعي تدور العالم خلال لحظات. الحكومات التي تحاول صدهم الآن محرجة، فمظلتها اتحاد أوروبي يعتبر نفسه أهم المنادين بحماية حقوق الإنسان.
الحديث عن ثورة إنسانية، تحاول أوروبا مواجهتها، لا ينفي إطلاقا الاتصال بجسور المنطق. السوريون يثورون الآن على الجميع بحثاً عن «النجاة المشرفة». إنها ثورتهم ضد «الجميع»، جميع راسمي مصيرهم الأسود في بلادهم. يجب ألا يلومهم أحد. ألم يقل لهم مبعوث الأمم المتحدة، استيفان دي ميستورا، قبل أيام إن «الجميع مستعدون للحرب حتى آخر سوري»؟ هذا السيل، ببساطة ومنطق، ليس مستعداً لأن يحارب به الآخرون حتى آخر إنسان سوري.
ما تنقله الشاشات يرسم أيضاً ثورة مشرّفة. حينما تحدث المثل، لسان الذكاء الشعبي، عن «المرجلة»، كان يقصد البطولة والشجاعة. إذا كان الهرب، في الأحوال العادية، هو ثلثا «البطولة»، فسيكون بقياسات الجحيم السوري «البطولة كلّها». اندفع السوريون يوماً طلباً للحياة، فشهدوا كيف اندفع «الجميع» لهدم بلادهم على رؤوسهم. ها هم الآن يواصلون دفع سيلِ مطلبِ الحياة الكريمة، بعدما ضاق بعضهم بقسوة ملاجئ الجوار المخزية.
هكذا تواصل أوروبا عجزها عن مواجهة سيل يبحث عن «النجاة» بثورة إنسانية. الآلية ذاتها سادت: الخوف، البحث، ثم التماس الطريق لتقود الجموع بعضها، وتستقوي بكثرتها المسالمة. السوريون يرددون الآن، أمام صدّ وقمع المجر ومن يحاكيها، شعارات أولى مظاهراتهم نفسها، حركاتها وكلماتها.
لا يمكن لتكتل أوروبي القول أن لا علاقة له: لديه مقعدان في مجلس الأمن، فرنسا وبريطانيا المنخرطتان في الحرب تسليحاً وسياسة، كما أنه الاقتصاد الأكبر في العالم. إنها أزمة اللجوء الأكبر، يقول الأوروبيون، منذ الحرب العالمية الثانية. حسناً، فليكن محكّا للأفعال يختبر شعاراتهم الانسانية المزدهرة وقت الكلام.
لكن هذا المحك يعمل باتجاه آخر. يوماً بعد آخر، يواصل سيل اللاجئين تعرية الخلافات الأوروبية. كرواتيا ضاقت من تحويل المجر مجرى سيل اللاجئين إليها. باتت توجّه الحشود مجدداً إلى الحدود مع المجر. ترسل الباصات المجانية لتحملهم إلى المناطق الحدودية. أغلقت سبعة من أصل ثمانية معابر حدودية مع صربيا، التي لا يزال اللاجئون يعبرون إليها بيسر من مقدونيا قادمين من اليونان. منذ الأربعاء دخل الأراضي الكرواتية نحو 14 ألف لاجئ، وهم يتحايلون الآن على إغلاق المعابر بالدخول من المناطق الريفية.
الارتجال لا يزال السياسة السائدة في عموم الاستجابة الأوروبية. قبل أيام قالت حكومة زغرب إنها ستسجل كل اللاجئين الوافدين إليها، لكنها أوقفت ذلك أمس معلنة أن الأعداد فاضت عن قدراتها. رئيس الوزراء الكرواتي زوران ميلانوفيتش اعترف بالعجز، ليقول إن حكومته «لا تريد ولا تسطيع إغلاق حدودها». لكنه شدد على أنهم سيوجهون اللاجئين إلى المجر وسلوفينيا، ليوعز مخاطباً السيل :»أهلاً بكم في كرواتيا، يمكنكم العبور. لكن تابعوا. ليس لأننا لا نحبكم، لكن لأنها ليست وجهتكم الأخيرة».
رئيس الوزراء قال علناً إنه لا يريد أن تتحول بلاده إلى «نقطة ساخنة» لتجميع اللاجئين. يعرف تبعات ذلك. الخطة الأوروبية المقترحة تريد أيضاً إقامة «نقاط ساخنة»، في أماكن تجمّع اللاجئين، تحديداً اليونان والمجر وإيطاليا. يقتضي ذلك إقامة مراكز استقبال ضخمة، على أن يتم توزيع اللاجئين من هناك وفق نظام «الحصص». لا تريد كرواتيا أن تصير أحد تلك المراكز، لذلك تبذل كل جهدها الآن لتفريغ أراضيها من اللاجئين.
لكن المهمة ليست سهلة إطلاقاً. حالما بدأت كرواتيا بنقل اللاجئين إلى حدودها مع المجر، سارعت الأخيرة إلى بناء سياج شائك، بطول 41 كيلومتراً على امتداد تلك الحدود، تماماً كالذي رفعته على حدودها مع صربيا. بحلول نهاية الأسبوع، سيكون هناك 1800 جندي مجري يحرسون الجدار الجديد.
على الجهة الأخرى، تواجه مساعي كرواتيا لتفريغ اللاجئين قيام سلوفينيا بالصد عبر فرضها الرقابة الحدودية. هذه الدولة تشكل حدوداً خارجية لـ «منطقة شنغن» للتنقل الحر، مثل المجر. كرواتيا ليست عضواً فيها بعد. رئيس الوزراء السلوفيني ميرو كيرار قال بصريح الإغلاق :»لا يمكننا ترك الناس الذين لا يستوفون الشروط أن يدخلوا إلى الاتحاد الأوروبي عبر حدودنا».
المصاعب التي تواجهها «ماما ميركل»، لجهة الاعتراض على سياسة «الحضن المفتوح»، بدأت تظهر مفاعيلها. في خطوة اعتبرتها صحف ألمانية «علامة إنذار»، استقال مانفريد شميت على نحو مفاجئ. رئيس المكتب الفدرالي للهجرة واللجوء اكتفى بتبرير الاستقالة بـ«أسباب شخصية»، لكن الإعلام بات يتحدث عن انتشار سياسة «النعامة» في ألمانيا أيضاً. صحيح أن غالبية الرأي العام تدعم استقبال المزيد من اللاجئين، لكن بعض الولايات، تحديداً بافاريا، لا تكف عن الشكوى من عدم قدرة استيعاب مراكز اللجوء وأيضاً برامج الإدماج.
إمكانية إيجاد الأوروبيين لمجرى واحد، ينظم سير سيل اللجوء، لا تزال معلقة. الثلاثاء يجتمع وزراء الداخلية بشكل طارئ، واليوم التالي يلتقي الزعماء. هذا الاستنفار يشير إلى إصرار ألماني - فرنسي على الخروج بحل. مع ذلك، من المشكوك فيه أن يقبل أوروبان، مع دول فريق الرفض، استقبال «حصصهم» من اللاجئين، أو دفع غرامة معتبرة للميزانية الأوروبية في حال المخالفة المبررة.
التهديد بأضرار عودة الحدود إلى أوروبا بات واقعاً مؤثّراً. دول الرفض تعرف أنها ستكون أكبر المتضررين اقتصادياً كما أسمعتهم برلين بصراحة. التعويل على يأس اللاجئين، إحباط سيلهم وثورتهم ضد كل سد، سيكون تتويجاً لفشل سياسة «النعامة». من يعتقد بغير ذلك، عليه العودة لمشاهدة الحل «الثوري» عبر المسير الإنساني المهيب للاجئين. من يشكك في عزيمة السيل، ما عليه سوى الاستماع لشعاراته أمام الصد والمنع، يقتبسها من تظاهرات سوريا الأولى ليستجمع قوته: «اللي ما بيشارك... ما فيه ناموس».
 

  • شارك الخبر