hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - جعفر العطار

غابة «حيوانات» سياسية.. غاضبون لا مندسون.. والآلاف يتوعّدون

الإثنين ١٥ آب ٢٠١٥ - 07:19

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

السفير

عسكريون يسيرون ببطء متقدمين من ثلاث جهات. ثيابهم داكنة. رؤوسهم تعلوها خوذ تحجب وجوههم. أيديهم تقبض على هراوات تتمايل مع سيرهم، خطوة، خطوة. متظاهرون بالمئات مطوّقون أمام السرايا من ثلاثة مداخل. فتى نحيل ملثّم يحمل حجراً. يخاطب العسكريين صارخاً مردداً: «إذا قبضايات.. قرّبوا يا حيوانات!». يرمي الحجر ويمشي نحوهم، خطوة، خطوة، فيسير خلفه خمسة ملثمين بصدور عارية، بينما المتظاهرون المحاصرون يراقبون بخوف، ينتظرون.
حجر، حجران: «قرّبوا يا كلاب»، يردد الملثّم. العسكر يسير ببطء. شباب وشابات يتلفتون ذات اليمين وذات الشمال. محاصرون، حائرون. الساعة الحادية عشرة ليلاً. صحافيون يتجهزون للتصوير. كل منهم يحمل الكاميرا كما لو أنها بندقية. يتحضّرون وينسحبون إلى حدود السرايا المحصّنة بأسلاك شائكة. دقيقة، دقيقتان: العسكر يقفز خبباً. يسير أفراده مسرعين لاهثين من جهتين. الهراوات تعلو وتنخفض. يقع الملثم أرضاً، حاملاً بإحدى يديه حجراً. يركض المتظاهرون. يصرخون. دقيقة، دقيقتان: يختفون.
العسكريون ثابتون عند المداخل الثلاثة المؤدية إلى باحة السرايا في ساحة رياض الصلح. لا متظاهرون هنا: صحافيون يحدوهم قلق، وترقب. ضبّاط من مخابرات الجيش و «شعبة المعلومات» يمشون ذهاباً وإياباً بطريقة مسرحية استعراضية: مرافقة وحراسة، خوفاً من لا أحد. الملثم النحيل مطوقٌ بأربعة عسكريين. يداه إلى الخلف.
ينزع عسكريٌ متجهّم اللثام عن وجه الفتى. في وجهه ندوب. «شو اسمك!؟»، يصرخ أحد الصحافيين. يدمدم الفتى حروفاً بصوت خافت خائف. «اخرس»، يقول العسكري، فينظر الفتى إلى عينيه كما لو أنه يحاول رسم ملامحه وحفظها بذاكرته. «شو.. ما معاجبك الوضع يا قبضاي؟»، يسأل العسكري. «ايه، ما معاجبني»، يجيب الفتى بنبرة عسكرية. يتقدم ضابط بثياب مدنية نحوهما. يفتعل العسكري دهشة درامية قائلاً: «سيدنا، شوف ايديه للولد، مشطّبين لأنو تعاطى مخدرات!». يهز الضابط برأسه. «خير»، يقول وينصرف. «مبسوط يا شطّور؟»، يسأل العسكري. يجيب الفتى: «ايه».
هدوء. سكون. الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً. صحافيون يغادرون الباحة وآخرون ينتظرون. العسكر منتشر في حلقة دائرية. بقايا أحجار ورماد أمام الأسلاك الشائكة. آثار ساحة حرب. سكون. هدوء يكسره شابٌ عشريني يلف منديلاً حول رأسه ويحمل علم لبنان بيديه. اسمه حسين شريف. يقف أمام العسكريين وجهاً لوجه. يسير أمامهم وحولهم. يلوّح بيديه فيرفرف العلم مثل عصفور يطير في قفص. يصرخ مردداً بلكنة بقاعية: «إنتو عم تحموا 128 حرامي و24 وزير نهبونا! بدنا قانون انتخابات جديد. لبنان دائرة واحدة. بدنا ترجعلنا كل أموالنا اللي سرقوها حكامنا!».


إرحل: حريري.. جنبلاط.. نصرالله


عينا الطفل حائرتان. ينظر، من فوق كتفَي والده، متفحصاً الوجوه أمام وزارة الداخلية، مثل رادار. الساعة الخامسة وخمس دقائق عصراً. الطفل يعرف، ربما، أنها وجوه غاضبة، ويرى وجوهاً فرحة، لكنه لا يعرف، ربما، ماذا تريد، بينما أذناه تسمعان كلمات تدوّي أصواتها عالياً: «الشعب يريد..». يمشي الأب في المسيرة، متوجهاً مع الآلاف إلى ساحة الشهداء.
يسير المتظاهرون ببطء يشبه بطء خطوات العسكر. لا إجراءات أمنية هنا. لا عسكر. المسيرة تكبر، والطفل ينظر: قبضات عالية. لافتات عملاقة تزينها شعارات متنوعة. شاحنات صغيرة تتوسطها مكبرات صوت كبيرة. امرأة تجلس على كرسي متحرك، تتحرك مبتسمة. عجوز يكفكف دموعه فرحاً.
العجوز يرفع رأسه. ينظر، بعينيه الذابلتين، إلى شابة تحمل لافتة كُتب عليها: «أبي لم يسمح لي بالمشاركة في التظاهرة، لكنني رفضت، وأتيت». يضحك مثل طفل. في عينيه حزن يحاول دفنه. يرتاح. يجلس على رصيف قرب أسواق بيروت.
يسمع العمّ شعارات ينتشر صداها في سماء المدينة: «نبيه برّي.. ارحل.. سمير جعجع.. ارحل.. ميشال عون.. ارحل.. نهاد المشنوق.. ارحل.. حسن نصرالله.. ارحل.. سعد الحريري.. ارحل.. وليد جنبلاط.. ارحل.. تمام سلام.. ارحل.. سليمان فرنجية.. ارحل». يحاول النهوض لكن عبثاً. يبقى جالساً. يسند رأسه إلى عمود كهرباء. الآلاف يسيرون أمامه. الأصوات تتبدل، وصداها يتمدد: «سوليدير وسخة وسخة.. والنواب عنها نسخة».
شابٌ عشريني اسمه شربل أبيض يقترب من العجوز. يحمل بإحدى يديه شجرة صغيرة، بينما يمد يده الثانية ليساعد العمّ على الوقوف. يقف مبتسماً. تفحص الشجرة بعينيه الذاويتين: في جذورها صندوق كرتوني كُتب عليه «صندوق الاقتراع»، وفي أحد فروعها ثمة ورقة تذيّلها كلمتان: «ازرع تحصد». أما أغصانها، فتتدلى منها «ثمارها»: أكياس نفايات دائرية. «مين الزبالة؟»، يسأل العمّ رافعاً أحد حاجبيه. «كل الأحزاب السياسية.. كل الحيوانات بالغابة السياسية»، يجيب شربل ويودّع العجوز بابتسامة ثم يسير بين الحشود مزهواً.
عربات أطفال يدفعها آباء وأمهات. شمس آب تعود شيئاً فشيئاً، تستعد للمغيب بعد قليل. أصوات أغان وطبول. تصفيق. رقص. طائرة صغيرة أرسلها تلفزيون «الجديد»، تحمل كاميرا تحلّق في السماء فوق ساحة الشهداء. تعلو الهتافات والأنظار إلى السماء، إلى الطائرة: «حيّوا برجا.. حيّينا.. حيّوا الضاحية.. حيّينا.. حيّوا الطريق الجديدة.. حيّينا.. حيّوا الجنوب.. حيّينا.. حيّوا الخندق.. حيّينا.. حيّوا طرابلس.. حيّينا.. حيّوا الإقليم.. حيّينا.. حيّوا البقاع.. حيّينا».
تتجمهر الفتيات حول شربل. يتصورنّ معه. بينهن سمراء اسمها زينب. تطلب منه أن تحمل الشجرة. تحملها. تتصور وحدها. «فيه كلمة باسم المتظاهرين؟»، تسأل زينب بصوت تائه. «إنو ايه.. لازم، يمكن بعد شوي». تمشي نحو الباحة الترابية المواجهة للتمثال في ساحة الشهداء. على جانبي الساحة، ثمة ساحات لمجموعات متفرقة، كل منها يردد أفرادها شعارات اجتماعية، ومنهم من يدندن أغاني الشيخ إمام وفيروز وأحمد قعبور وزياد الرحباني، بينما آخرون يهتفون: «يلّا ارحل يا بشّار.. يلّلا ارحل يا فؤاد».
لا عسكر هنا. الساعة السابعة والنصف. تدقق زينب في صوَر موزعة بلافتة يرفعها رجلٌ أربعيني: خمسون صورة لوجوه نواب ووزراء و «زعماء» من 8 و14 آذار. عنوان اللافتة: «غابة الحيوانات». تفتعل ابتسامة وتسأل الرجل: «من وين حضرتك؟». يجيبها: «درزي. كنت درزي. حالياً لبناني». تتلعثم زينب. ترتبك. تصحح: «قصدي من وين، مش شو مذهبك». يخفض اللافتة قليلاً. يقول: «اسمي عامر يحيى. بعرف إنو ما هيك قصدك. مزحة، اعتبريها مزحة». تضحك زينب. تسأل: «بقدر آخدها منك؟». تأخذها.


براميل مشتعلة.. وهجوم عسكري


التاسعة والنصف مساء. يقف عامر بين شباب وشابات يتابعون رمي المفرقعات النارية خلف السياج الشائك، كما لو أنهم يتابعون مباراة كرة قدم تضمّ فريقاً واحداً، ليس لديه سوى حارس مختبئ خلف المرمى. الغاضبون لا يتجاوز عددهم 15 شاباً ملثّماً، ومنهم غير الملثم.
المتظاهرون السلميون بالمئات، يشاهدون ويراقبون «المباراة» بحماسة سرعان ما ستتحول إلى ملل بعد نصف ساعة: يتكرر مشهد رمي المفرقعات، الزجاجات الفارغة، الحجارة، والبراميل المشتعلة، من دون حصول أي ردّ فعل من جانب العسكر في السرايا، سواء عبر القنابل المسيلة للدموع أم من خلال إطلاق الرصاص في الهواء.
يتخطى الغاضبون حاجز السياج الشائك الأول: الساعة العاشرة ليلاً. دقيقة، دقيقتان: يجتازون الحاجز الثاني. تعود الحماسة لدى «الجمهور». يُسمع صوتٌ من خلف السياج، يناشد المتظاهرين «مغادرة الساحة فوراً». لا رصاص. لا قنابل. لا مغادرة. تباعاً، تصل دراجات نارية تمكن سائقوها من التسلل بعكس السير، وتخطي الحواجز الأمنية. يترجلون منها مسرعين صارخين: «هلأ بلّش وقت الجدّ».
الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً: المتظاهرون غادروا الباحة بعد هجوم «مكافحة الشغب». حسين شريف يخاطب العسكر. يصرخ وحيداً. صحافيون يصفقّون. دقيقة، دقيقتان: يغادرون. يعدّد حسين مطالبه وحيداً. يغادر العسكر. يُفتح الطريق. تمر السيارات العمومية، والخاصة.
حسين يصرخ وحيداً، كما لو أنه في غرفة جدرانها من فولاذ، بينما الملثم النحيل مكبّل اليدين، ينظر بعينين تائهتين في وجه العسكري المتجهّم. الضابط ترك الساحة بعدما غادرها العميد مع مرافقيه. الطفل نائم، ربما يعاند ذاكرته في استدعاء ما رأى وما سمع: صوراً ضبابية ملوّنة، وأصوات حناجر مدويّة. الطفل نائم. حين يكبر، سيسأل الأب والأم عما حاول أن يتذكر. سيقولون له ماذا رأى وما سمع ولماذا. سيتذكر، وربما يقرأ: ذات يوم في فصل الصيف، سار عجوز في مسيرة غدرتها بلادها بناسها، مشى باكياً فرحاً مع شربل وزينب وعامر.
حين يكبر، سيتذكر الطفل، ويقرأ: أصنامنا رفعناها بأيدينا وعبدناها طوعاً وخوفاً. خوفنا قادنا إلى تقديس أنصاف آلهة علّمونا أنهم هم من يحمونا، فعبدناهم، رفعناهم بأيدينا وقدسنا أصنامهم، بينما رفعوا فوق رؤوسنا عصا ليخوفونا أكثر فنعبدهم أكثر. وعندما اكتشفنا أن الأصنام يمكن أن تُكسّر، أزحنا العصا، لكننا لم نكسرها.


من الخندق الغميق.. ولكن


كشف مرجع أمني لـ»السفير»، منتصف ليل أمس، أن التحقيقات الاستقصائية، سواء عبر «داتا» الاتصالات أم من خلال الاستطلاع الميداني، لم «تثبت وجود قرار سياسي – حزبي وراء مشاركة مثيري الشغب الموقوفين لدى قوى الأمن الداخلي، وذلك خلافاً لما كان يتردد عن إرسال حركة أمل أو السرايا التابعة لحزب الله لهؤلاء الشبان».
وأوضح المرجع، المقرّب من 14 آذار، أن «الموقوفين غالبيتهم من منطقة الخندق الغميق، وتمت إحالة 12 منهم إلى شرطة بيروت، بينما يوجد شخص واحد لدى الشرطة القضائية»، مشيراً إلى أن «هؤلاء الشبان، وفق إفاداتهم، لديهم غضب على الدولة بأحزابها السياسية كلها، وقالوا لنا إنهم تعدوّا على السرايا لأنهم اعتبروها طريقتهم الوحيدة للتعبير عن غضبهم، سواء منا نحن الأمن، أم من الحكومة».
وأكد المرجع الأمني أن «حالات مماثلة لا يمكن ضبطها حالياً أم مستقبلياً في التظاهرات، فإنهم وغيرهم مصرّون على التعبير عن غضبهم بطريقتهم»، لافتاً إلى «اننا، الأمن سندفع ثمن ذلك، تماماً مثلما سيدفوعن هم ضريبة طريقة تصرفاتهم غير المبررة».
وقال المرجع إن «من بين الموقوفين، ثمة شاب تعمل والدته مساعدة منزلية وتتقاضى 55 ألف ليرة أسبوعياً»، مشيراً إلى «عدم إجراء أي فحوصات تتعلق بالمخدرات، والملف الآن أصبح لدى القضاء». وأكد ما نشرته «السفير»، أمس الأول، في شأن «تسيير مجموعات أمنية سرّية في التظاهرة لردع أي محاولة شغب، وكانت تتواصل مع قائد شرطة بيروت العميد محمد الأيوبي، الذي أشرف على التنسيق مع الجيش والمنظمين من الحملات في الحراك».


«ائتلاف» أم خلاف؟


علمت «السفير» أن إشكالات عدة وقعت في الاجتماع الذي عُقد بين الممثلين عن الحملات والمجموعات والجمعيات، التي شاركت في تظاهرة أمس الأول، بدأ بنقاش وخلاف استمر نحو ساعتين، وذلك في شأن الأسماء المُقترحة لإلقاء كلمة تمثّل الحراك المدني في ساحة الشهداء، إلى أن تم أخيراً الاتفاق على شابة لا تمثل أي حملة أو جمعية.
وقال مصدر معني في الحراك لـ «السفير» إن «خلافات عدة أدت إلى تأجيل الإعلان عن الائتلاف الذي كان مقرراً إعلانه السبت في التظاهرة»، مشيراً إلى أن «مهلة الـ72 ساعة التي تنتهي الثلاثاء، يمكن تمديدها يوماً إضافياً بالتزامن موعد كشف وزير الداخلية نهاد المشنوق عن التحقيقات المتعلقة بالاعتداءات الأمنية، لكن ثمة احتمالا آخر يقضي بأن نتوجه بتظاهرة سلميّة إلى مدخل الوزارة للضغط على المشنوق، علماً أن كل احتمالات التصعيد واردة ومفتوحة».
وأشار المصدر إلى أن يوم غد الثلاثاء «لن يشهد، حتى الساعة، أي تظاهرة رسمية من الحراك، بل سيُعقد مؤتمر صحافي نعلن خلاله عن الخطوات التي سنتوصل إليها غداً (اليوم) في الاجتماع»، لافتاً إلى أن «الاجتماع يضم نحو 18 فرداً يمثلون حملات ومجموعات وجمعيات عدة».
 

  • شارك الخبر