hit counter script

باقلامهم - المحامي عصام جورج الخوري

يا جنودَ لبنان حرّيةُ شعبنا وكرامته معقودتان بكم على أَلسِنَةِ

السبت ١٥ آب ٢٠١٥ - 05:30

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

أيُّها الضبّاطُ والرتباء والجنود،

تَرددْتُ أَنْ أقولَ كلاماً فيكم اليومَ، لأنَّ الصّمتَ عن الحديثِ أَفضلُ بكثيرٍ من الحديثِ عن صامتٍ أكبرَ. فمهمَا كانتِ الكلمةُ مُقدَّسةً، ومهما تَشامَخنا بها، وعِشنا على كَرامتِها، تبقَى الفصاحةُ أعنفَ أثراً وأَشدَّ وَقْعاً في إنسانٍ واحدٍ لا حركةٌ فيه ولا كلامٌ، هو الشّهيدُ: هنا، وأمامَ دَمِه، تَنحَني الحُروفُ ويَنقطِعُ الكلامُ.

وترددتُ أكثرَ في الكلامِ أمامَ عَمّن يَقتصِرُ في الكلامِ ويَسخو في الفعلِ والعطاءِ.

إلاَّ أَنَّني، أَيُّها الإِخوة، عزمتُ على الكلام اليوم، لتكونَ كَلِمتي، في عيدكم الأوّل من آب، شهادةً أمامَ مَنِ امتَهنَ الاستشهادَ، وبين شَهادَتي وشهادَتِكُم، يقفُ وطنٌ، على مُفتَرقِ طريقٍ، وعلى حدٍّ بينَ الحياةِ والموت.

يا سيوفَ لبنان وأبناءه الميامين،

في عيدكم اليوم، وأنتم فرحةُ العيدِ ولبنانَ، نقفُ معكم، إلى جانبكم، حولكم، عِقْداً من المحبَّة والاعتزاز والإكبار، لا لنهنِّئَ، ولا لنجامل، ولا لنتبادل كلمات مع صامتٍ كبير، بل، لِوَقفةٍ وطنيَّة صادقة تَسترجع الماضي العظيم وتتأمَّل الحاضر الواعد وتستشرف المستقبل المنتظر.

لَقَدْ كان لنا مع التاريخ رِفقة ماضٍ عزيزة. فلقد مرَّت على لبنان أحداث وفواجع، وحلَّت على أرضه زلازل وعواصف واستبيحت أرضه من غزاة وطامعين كُثُر، ذوي أعلام متعدّدة وخُوَذ ملوّنة وأسماء غريبة. وبقي لبنان، لا يهدأ إلاَّ ليثورَ ويثأر، ولا يصبر إلا لينتصرَ، ولا يَسْلَم إلا لينتفض ويتحّرر: وكان أجدادُكم، يا أحفاد فخر الدين، أقوى من القَدَرِ وأصلب من كلِّ احتلال واستعمار. فتحوّلت أرض لبنان، من رمال الشواطئ، في صيدا المتكبّرة، وفي صور المتمرّدة، وفي بيروت الصامدة، وفي جبيل الثائرة، وفي طرابلس الفيحاء الخالدة، إلى قِمَمِ الجبال، في المغاور والكهوف ومتاريس الصخور... تحوّلت هذه الأرض إلى أرض شهيدة وإلى ترابات مقدّسة، ولم يبقَ للجيوش المحتلِّةِ سوى صخورِ نهر الكلب، وكأنَّنا والشاعر نقول:
"للفقر قلنا: استرِحْ، للمستبدّ: أشِحْ
غداً على الرمل لا يبقى سوى الدِّمَنِ"

هذا الماضي العظيم، يا حماة لبنان، تَستعيدون اليومَ، في هذا الحاضر الواعد. ولن يكونَ الحاضر أبداً خائناً لماضيه، ولا الأبناء هازئين بتراثِ الأجدادِ.

لقد صَمّمتم على استعادة لبنان من أيدي الخاطفين والعابثين، وسيكون لكم عزُّ الانتصار، لن تثنيَكُم عن ذلك، اتّهامات وجراح. لقد تحمّلتم مع مقاومين بواسل مسؤوليَّة تحرير لبنان، وإنّكم لفاعلون، وغداً، سيكون لسواعدكم، مجد ارتفاع العَلمِ اللّبنانيّ، شامخاً على كلِّ الأراضي اللّبنانيّة. فإنْ كنتم أنتم من كلِّ لبنان ولكلِّ لبنان، فلن يكونَ لهذا الوطنِ، إلا العَلم الذي رسمتم ألوانَه بالدّم والتضحية والفداء والشرف، في حين تُودِّع أعلام، وتطوف أعلام وتختفي أخرى.

أما المستقبل، أيُّها الأبناء والإِخوة، فهو المستقبل الذي يَرتسم اليوم، في عيونكم، وعلى الجباه والصدور. فحريّة هذا الشعب وكرامته معقودتان بكم، على أَلسِنَةِ سيوفِكُم، وإليكم، اليومَ، يتطلع.

أيُّها الأبطال.
ليست البطولةُ رخصةً أو شهادةً أو وساماً، البطولةُ قيمةٌ في النفس، لا تحدُّها حدودٌ، ولا تُقونِنُها شُروطٌ، ولهذا فهِيَ تتعدَّى البطولةَ الجسديَّة، لتطال الأخلاقَ والسّلوكَ والأحاديثَ والآدابَ، كما تتجاوزُ حدودَ الثكنةِ، إلى المنزلِ والشارعِ والمجتمعِ وساحةِ المعركةِ ومن هنا يكونُ البطلُ، حَيّاً وشهيداً، قُدوةً ورَمزاً ومثِالاً للآخرين. إنَّهُ وحدَه، تصحُّ فيه عبارة: فارسُ الأحلامِ.

وهنا، أَرى، بصورة خاصّة في هذا الزّمن المشؤوم، ضرورةَ التمييزِ بين البطَلِ المُقاتلِ وبين "البطلِ" القاتل.

هذا المُقاتلُ وحدَه يَستحِقُّ لَقَبَ بطَل. أَمَّا القاتلُ فثوبُ البطولةِ فَضفاضٌ عليه ومُستعارٌ، ولا يستحقُّ إلاَّ ثوبَ المُجرمِ أو ثوبَ المحكومِ عليه بالإِعدام.

المُقاتلُ يُدافعُ عن قضيَّةٍ، عن مبدإٍ، عن أرضٍ، عن كرامةٍ، عن وطنٍ، أَمَّا القاتلُ فلا يدافع إلا عن نفسِه وشَهَواتِه، ويدافعُ عن غريزةِ الدَّمِ والإِجرامِ.

المقاتلُ يقاتلُ ليَنتصِرَ وتنتصرَ معه القضيَّةُ، أَمَّا القاتلُ فيقتُلُ ليقتلَ، وربَّما قَتَلَ في الضحيَّةِ شَبَحَ القضيَّةِ أيضاً.

المقاتلُ يُقاتِلُ خَصْماً، يُحدِّدُه، ويحذِّرُه، ويتعاملُ معه بشَرفٍ ورِفعةٍ، أَمَّا القاتلُ فلا يحدِّدُ خَصماً، بل يقتلُ عَشوائيّاً، وبطريقةٍ غادرةٍ بعيدةٍ عن شَرفِ القتالِ والمُقاتلين، والأمثلة عديدة في هذا الزمن البائس من عمر الوطن.

وبكلِّ اعتزازٍ وفخرٍ أَقولُ: شرفُ الجيشِ اللّبنانيِّ أَنَّ فيه كُثُراً من المقاتلينَ نُنافِسُ فيهم، بطولةَ وقوَّةَ الكثيرِ من جيوشِ العالَم.

فالتحية لكم يا جنود لبنان، في عيدِكم، ولقادتكم الميامين، وبوركَ الجرحُ الذي تحملُونه شَرَفاً تحت ظلالِ العَلَمِ.

حسبِ الجيّش، أنّه في ساعاتِ الغضب الساطع وزمنِ الحقدِ الكبير، قدّمَ للوطن الممزّق صورةً مُضيئةً عن الإلفةِ والوحدة والوفاء والتضحية. فشكراً أيّها الصامتُ الأكبر، سنبقى نحن أيضاً في لبنان المعذّب، ننادي بالوحدةِ ونُبالغ في الوفاءِ والولاء والتضحية، ونغنّي... للحبّ، لأرضٍ، لحريّةٍ... ولن نموت. والسَّلامُ للبنان.

 

 

  • شارك الخبر