hit counter script

مقالات مختارة - نادر حجاز

عن وطن نفاياته أنظف ما فيه

الخميس ١٥ تموز ٢٠١٥ - 07:22

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

البلد

سنوات طويلة أمضاها اللبنانيون شعباً وسياسيين بالتكاذب على بعضهم البعض، يتغنون بجمال بلدهم وطبيعته، وبوحدتهم الوطنية وعيشهم المشترك رغم الحرب القذرة التي حصدت آلاف الابرياء وشوّهت ما شوّهت من قيم هذا البلد وأخلاق شعبه.
يتكاذبون على بعضهم البعض في المحافل الدولية والاقليمية والمحلية، فتجمعهم قهقهات مقاهي ساحة النجمة على أنقاض ما تبقى من سلطة تشريعية وسلطة شعب، تجمعهم حفلات الاستقبال وموائد السفراء في فنادق الخمس نجوم تكريماً لصحن التبولة والحمص والمازة اللبنانية التي لطالما أغرت ملوك الشرق والغرب، تجمعهم الغرف المغلقة وطاولات الصفقات والتجارات المربحة ... ويتكاذبون.
يتكاذبون على بعضهم البعض في المؤتمرات وعلى المنابر وفي الاستقبالات السياسية اليومية وفي التظاهرات المطلبية وعلى شاشات التلفزة، ويؤكدون ويشددون ويصرون على ان مصلحة البلد والشعب فوق الجميع وان لا خلاص لنا الا بالحوار والتوافق ... ويتكاذبون.
يتكاذبون في حفلات الزفاف وفي المآتم وفي الواجبات الاجتماعية، في صالات الاستقبال والوداع في مطار بيروت، وحتى في قصر موسى وقصر بيت الدين ومغارة جعيتا وغابة الارز يتسارعون لالتقاط الصور في رحاب الذاكرة اللبنانية ... ويتكاذبون.
يتكاذبون في حبهم لجيش بلدهم ويتسابقون لنشر صور شهداء الميدان على صفحاتهم عبر الفايسبوك، وفي اول محطة يرشقونه بما تبقى من ضمير وطني ويعودون الى انتماءاتهم الضيقة.
يتكاذبون في صناديق الاقتراع وفي هتافاتهم وشعاراتهم ومبادئهم، فلكل منهم راية ومدرسة وجامعة ومستشفى وإعلام، لكل منهم حدود وسيادة أكبر من السيادة الوطنية، ورغم كل ذلك يتكاذبون.
سنوات طويلة أمضاها اللبنانيون بالتكاذب على بعضهم البعض، يتقنون لغات العالم ولا لغة توحدهم، عبروا البحار منذ فجر التاريخ وغزوا شواطئ الحضارات العريقة ولا يملكون اليوم شاطئاً لأولادهم.
يدخلون مراكز القرار في الدول الكبرى حكاماً ومسؤولين ورجال اعمال، وفي بلدهم يعجزون عن أبسط مقومات الدولة بانتخاب رئيس للجمهورية.
يتغنون بحكم القانون في بلاد الاغتراب وبهيبة الدولة وسطوتها، ويرفضون تنفيذ القوانين في بلاد "الواسطة"، ويمتهنون قطع الطرقات وتلويث مدنهم واوكسيجين اطفالهم بدخان دواليب حرية التعبير العمياء.
كل ما في هذا البلد كذب، حتى كتاب التاريخ والادب والتربية الوطنية والمدنية والجغرافيا، فتاريخنا ليس واحداً ونصوص الادباء والشعراء الخالدين لم تُكتب لنا فمنها ما كُتب في شوارع القهر والغربة والبعض الآخر في المناسك بعيداً عن قذاراتنا، واما مصطلحات التربية المدنية فليست الا مفردات مترجمة عن دساتير شعوب لا تشبهنا ولا نعرفها ليس الا، واما الجغرافيا فذكر كل انهر وجبال واودية لبنان وفرد صفحات لخطوط الطول والعرض، ووحدها خطوط التماس لا مكان لها في فهرسه رغم انها الحدود الوهمية الوحيدة التي اعتاد اللبناني ان يعيش في نطاقها.
ورغم كل ذلك أتقن اللبنانيون لعبة التكاذب والتظاهر بالعفّة، الا ان يوم 17 تموز 2015 كان تاريخاً مفصلياً أسقط القناع وفضح أوسخ ما فينا، تاريخاً حوّل شوارعنا الى "مزبلة" فضحت عشرات السنين من التكاذب والفساد، فها هي نفاياتنا قد تكون أنظف ما فينا وأصدق ما في هذا البلد، وللأسف حتى نفاياتنا عجزت عن توحيدنا.
لو كان جبران حياً ماذا كان ليكتب يا ترى؟ أظنه كان سيقول: ويل لأمة يتلهى حكامها بنفاياتهم في زمن تسقط فيه الامم، ويل لأمة تبحث عمّن ينظف شوارعها من أوساخها.
ويل لأمة تلوّث ما تأكل وما تشرب وما تتنفس، وتهدم حيث يجب ان تبني، وتبني حيث يجب ان تزرع.
ما أتعسك يا بيروت وما أتعس وطن نفاياته أنظف ما فيه.
 

  • شارك الخبر