hit counter script

مقالات مختارة - إدمـون رزق

في سُدُراتِ الشِعْر

الأربعاء ١٥ تموز ٢٠١٥ - 08:13

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

الجمهورية

مثلما، على أعمدةٍ سَبعة، ارتفعَتْ حكمة الإغريق، يستوي الشاعر ذوقان عبد الصمد، اليوم، على سبعةِ دواوين، مُسَجّلاً رقمَ الاكتمالِ النوعيّ، في سُدُراتِ الشِعْر!

سمعتُه، أوّلَ مرّةٍ، في ذكرى عمّاطوريٍّ جليل، مُعَلِّمِ بلاغةٍ، مُربّي أجيال، مناضلٍ وطنيّ، هو الشيخ عارف أبو شقرا، فلَفَتَني جمعُه، في قصيدةِ المناسبة، صفاءَ الفكرةِ الى بهاءِ التعبير، وسرَّني أنه تولّى المسؤوليّة الاداريّة والسياسيّة، وما تخلّى عن مراودةِ القوافي ومُطارَحَةِ الإِبداع! كذلك أسعدَني أن يُضفيَ خِيارُ قومِنا على التمثيلِ البلديّ مَسحَةَ الفكرِ ورونقَ الشِعر، فينعموا بمستوى مُحَسَّدٍ، ترتَجيه مطارحُ كثيرة. تلك شَهادةٌ مزدوجة: لعمّاطور الأبيّةِ، وللرئيسِ المُلهَم!

أتقن حِرفتَين

الشاعرُ الرئيس، أتقنَ الحِرفَتَيْن، أحدَثَ نمطَه: متينُ المباني فوّاحُ المعاني، يتخيّرُ الكلماتِ، يزِفُّها لوحاتٍ وتلاوين، في الشأنِ العام وثقافةِ الجمالية.
مقدَّمٌ، ذو خصوصيّةٍ، في احتسابِ الشعر، الى أنه شيخٌ، في انتسابِ الأرومةِ والمَحْتِد... ولعمرُكَ، أيُّ جارةٍ معطاء تُلوِّحُ على دربِنا، جنوباً، هي عمّاطورُ المنجبةُ، منبتُ شيوخِ العقلِ، كأنْ تَداولَتِ المكرُماتِ، سَمعاً وبَصَراً، «أنمُلُها العَشْرُ»!..
ثَبتُ الجَنانِ، جديرٌ، ليس بِعَدد الدواوين، بل لثراءِ المحتوى، عناوينَ ومضامين، مشيقةً رشيقة، عَفْوَ الايقاعِ، من غيرِ افتعال.

عناوين ومضامين

بدايةً، مع «رياحٍ وأشرِعة»، نَجدُنا على صَهَواتِ المَوْج، نرودُ آفاقاً بلا منتهى...
انتقالاً الى «ذاكرة الغياب»، تستحضرُ الزمانَ، يمثُلُ بين الدفّتَين، «حتى تتقرّاهُ يدانا بلمسِ» (على حد تعبير البحتري).
«عابراتٌ على جسدِ القصيدة» مُحْدَثاتُ نسيبٍ وتشبيب، من حدودِ العُذريّةِ حتّى مظانِّ الرؤى المِلاح...
«عينُ العريش»، مِهرجانُ وفاءٍ بالأهلِ والصِحاب، في عنفوانِ الفتُوّةِ والشَباب، وشموخِ النفوسِ على الرِغاب!

في «دروبِ الغمام»، نواكِبُهُ، بين مراودَةٍ واقتحام، وصّافاً رقيقاً أنيقاً، يستلُّ من قوسِ السحابِ خيوطاً، يَحدو بالهوادجِ مطايا، فللعرائسِ من نَسجِه حُلَلٌ ومطارفُ بيضٌ نديّات.

«لا تَقُلْ إِنّي أتيت»، نَهيٌ وجزم، قصائدُ تبدو، لِتصابيها، غِواياتٍ؛ فتعجَبُ لطاقةٍ على التجدُّدِ ذاتاً، والتجديدِ موضوعاً، كلّما امتشقَ الذوّاقةُ قلماً أو همَّ بورقة...

معَ «ستائر ممزّقة»، يتابعُ النَسْرُ تحليقَهُ، يرودُ الأجواءَ، يلاعبُ التفاعيل، كرَميِ النَرْدِ، يُبدِعُ لوحاتٍ، يتفنّنُ في نحتِ التراكيب، مطمئناً الى امتلاكِ القواعدِ، والإحاطةِ بالمواضيع.

ثمّةَ، نتملّى قصيدةَ «بردى» ذاتَ النَفَسِ الملحميّ، بمواقفِها الوطنيّة، تطلّعاتِها القوميّةِ واستشرافِها الإنساني، يُخالجُنا شعورٌ مُضنٍ بالفجيعةِ، على امتدادِ عالَمِ «الأمّة»، وقد «غابت حكاياتُ التحرّرِ والتحدّي والبطولة»...

التصدّي والإدانة

الى أن يبلُغَ ذُروةَ التصدّي والإِدانة باستعارةٍ معبّرة: «... ومشَتْ على جَمرِ الحجارةِ، فوقَ أرضٍ، كلّما أعلَتْ مآذنَها بهذا الشرقِ، تبتعِدُ السماء»! في مواجهةٍ مباشرةٍ مع ظاهرةِ الوثنيّة الجديدة، حيث «كثُرت بيوتُ الصلاة وقلَّ المُصلّون»، تفشَّتِ الطوائفُ والمذاهبُ وانحسَرَ الدين! فصَحَّ قولُ الناصريّ لتجّار الهيكل: «بيتي بيتُ صلاةٍ، وأنتم جعلتموه مغارةَ لصوص»! وهو القائل: «اذا أردتَ أن تصلّي، فادخُل مخدعَك وصلِّ «... و»يا بُني أعطني قلبك»... وأيضاً: «ملكوتُ اللهِ ليس أكلاً وشرباً... بل بِرٌّ وسلام»!.. لكننا معشَرٌ لا يستوحي غيرَ هواه، او يُصدِّقُ إلّا مُناه!

تحدّي النهايات

في القصيدةِ الى سميح القاسم، وَمَضاتٌ توحيديّة، تستنهضُ الهِمَمَ، تتحدّى النهايات بتأبيدِ البدايات:

«على ضجيجِ الحروفِ الروحُ عائدة / مَن قالَ: شاعرُها إنْ غابَ لم يَعُدِ؟! / يمرُّ فوق روابي الشام يسألها / عن ميسلونَ وعن أبطالِها المُرُدِ...».
هو اللبنانيّ الأصيل، يُطِلُّ على الشامِ وبغداد، يعبُرُ من ميسلونَ الى مصر، مطوِّفاً بينَ خليجٍ ومحيط، تذكيراً بأن العروبةَ بَدْعُ أهلِ هذا الجبلِ، في مواجهةِ التتريكِ، فإلامَ يُصنّفُ العاربةَ مستعربون، ويباهي الأصيلين مُعْجِمون؟!..

«يا أمّتي جُثَثُ القتلى موزّعةٌ / في الدربِ من بلدٍ تمشي الى بَلَدِ / فكيفَ نبني بلادَ العُربِ ثروتُها / لحاكمٍ عابثٍ بالحُكمِ منفردِ»، واضعاً الإصبع في جُرحِ شعوبٍ مستكينةٍ، أبدلَتِ الشُورى بالبَيْعة... وقبعَت في الدياميس تلعنُ الظلام!

حق الاختلاف

ثم يطرح الجدليّةَ، وحقَّ الاختلافِ، بحثاً عن الحقيقةِ بالشكِّ سبيلاً الى اليقين:

«... يبقى لنا الفكرُ ملحُ الأرضِ نقبلُهُ / في حَسْم معتقِدٍ أو شكِّ منتقِدِ!».
هذا البيتُ بذاتِه، يشكّلُ واحدةً من أطاريحِ العقلِ، يفتقِرُ اليها مجتمعٌ قَدَريٌّ، أقعدَهُ التسليمُ عن السؤال، وأعجزَهُ الاستسلامُ عن المعاصرة !.
يزخَرُ ديوان «ستائر ممزّقة»، بنفحاتِ فكرٍ، وطنيٍّ، قوميٍّ وانسانيّ، تؤرِّخُ مرحلةً ثوريّةً وتجسّد ارادةً تغييريّة: «لا تَرتجي الصِيدُ عُرسَ النصرِ من أحدِ / إن حادَ مُرتَهَنٌ في الشرقِ لا تَحِدِ!» أمّا أروعُ وصفٍ تشبيهيٍّ للكبرياء، ففي هذا البيت: «الكِبرياءُ عُقابٌ كلّما عَصَفَتْ / ريحٌ يُحلِّقُ صوبَ الشُمِّ في صُعُدِ».

قصائد حياة

جمعَ ذوقان عبد الصمد في قصائدِه، موضوعاتِ الحياةِ اليوميّة، بآمالِها وأحلامِها، معاناتِها وتطلُّعاتِها، متناولاً أغراضَ الشِعر المختلفةَ، الشخصيَّ، الوطنيَّ والانساني، وصّافاً، عاطفياً غَزِلاً، غوّاصاً الى أعماق النفس البشريّة، كأنّه يستجمعُ تَذكاراتِ حيواتٍ ماضيةٍ، ويستشرفُ آفاقَ أزمنةٍ آتية!.. يقيناً أنّ الوجود، عطيّةَ العقلِ الأزليِّ، يومٌ طويل: نحيا فيه على رجاءِ الموتِ الرضيِّ، لنموتَ على رجاء القيامة... مرّةً بعد مرّة، وكلَّ مرّة!

فكم هو حَسَنٌ أن ينهَضَ شاعِرٌ معروفيٌّ، مندّداً بسكارى «الشاي»... من أهلِ الكَهف، بعد أن باتَت قِيَمُنا كلُّها، إِرثُنا الحضاري، عيشُنا الواحد، «الوطنُ الرسالة»، في مَهَبِّ الرِّدَّةِ الهمجيّة، والتفرّجِ الجبان.

وقد استفاق الوحشُ الضاري في الانسان، وراح يُمزّقُ الانسانيّةَ إرَباً، يعتصِرُ نضارتَها، يحرقُ مكتباتِها، ينهبُ متاحفَها، يطمسُ آثارَها، ينبشُ لحودَها، يُهَدِّمُ أبراجَها، يُقوِّضُ أعمدتَها، ينهَبُ ثرواتِها، يُجفّفُ منابعَ الخير فيها... فإلامَ الغفلةُ وحتّامَ الصمتُ؟!
 

  • شارك الخبر