الحدث - دافيد عيسى
تجربة التوريث السياسي لجيل الشباب... في ظل متابعة ورعاية جيل الكبار
الجمعة ١٥ أيار ٢٠١٥ - 05:45
النظام السياسي في لبنان هو نظام طائفي في الواقع والذهنية والممارسة، ولكنه في التعريف الرسمي والدستوري نظام ديمقراطي برلماني. ومن أول سمات الديمقراطية وشروطها ان الشعب هو مصدر السلطات وهو من يختار ممثليه، وبالتالي فان ما يميّز انظمة ديمقراطية عن انظمة اخرى ديكتاتورية وتوتاليتارية هو تداول السلطة، والتغيير في مراكز المسؤولية، وارساء الدولة والحكم على نمط مؤسساتي ثابت وغير مرتبط باشخاص ومصالحهم ومزاجيتهم.
"النظام الديمقراطي" في لبنان هو استثناء بين الانظمة الديمقرطية في العالم ونكاد لا نجد شبيهاً ومثيلاً له. فالأعراف والتقاليد عندنا تتقدم في أحيان كثيرة على النصوص الدستورية، وقوة العرف تتقدم في حالات كثيرة على قوة النصّ. والتوازنات والخصوصيات والمصالح الطائفية تؤخذ في الاعتبار أكثر من الاعتبارات الوطنية والمصلحة العليا للبلاد. وعملية التوريث السياسي تتقدم في اغلب الاحيان على عملية التغيير الديمقراطي.
التوريث السياسي في لبنان عمره من عمر الاستقلال والنظام. صحيح ان الحرب غيّرت معالم ووجوه وبدلت في الخارطة السياسية، فازاحت عائلات والغت نفوذها بالكامل وقوّضت نفوذ عائلات اخرى، وانبثقت عن فترة الحرب وتجاربها قيادات وشخصيات لا تمت إلى الوراثة السياسية بصلة ولا تنتمي إلى طبقة أو نادي العائلات السياسية التقليدية.
وهذا التغيير حصل في الطوائف الثلاث الكبرى بشكل كبير وحيث الزعامة الشيعية خرجت من عائلات (الأسعد والخليل وحمادة وعسيران) وآلت إلى الرئيس نبيه بري ، وإلى السيد حسن نصرالله.
والزعامة السنيّة حصل فيها تحول نوعي عندما تبوأها لسنوات الرئيس الشهيد رفيق الحريري وفرض نفسه، بالرغم من انه من خارج العائلات السياسية السنيّة التقليدية في بيروت وصيدا وطرابلس (سلام والصلح وكرامي).
والزعامة المارونية لم تعد حكراً على عائلات سياسية تقليدية فقط ( الجميل وشمعون واده) بل خرجت منذ ربع قرن تقريباً إلى سياسيين غير تقليديين ايضآ: ميشال عون وسمير جعجع.
صحيح ان الحرب أعادت خلط اوراق الطوائف والعائلات. ولكن الصحيح ايضاً ان مبدأ التوريث السياسي ما زال نافذاً وساري المفعول في بعض الحالات، واستعاد اعتباره هذه الايام بعدما قرر الزعيم الدرزي وليد جنبلاط تسليم مقاليد الزعامة الدرزية لنجله تيمور، وقرر امين الجميل تسليم رئاسة حزب الكتائب إلى نجله سامي، وقرر سليمان فرنجية تسليم نجله طوني رئاسة "تيار المردة" خلال حياتهم.
التوريث السياسي من حيث المبدأ هو غير شعبي ومرفوض في احيان كثيرة لمجرد انه يتنافى مع المبادىء والأصول الديمقراطية التي تعطي لكل ذي حق حقه ولكل ذي حجم حجمه. ولكن في ظروفنا وأوضاعنا ومع هذه القيادات الشابة التي تتقدم إلى الخطوط الأمامية وتتحمل عبء ومسؤولية الشأن العام، يصبح للتوريث السياسي وجه آخر يفسح في المجال أمام وجوه شبابية جديدة من العائلة السياسية نفسها ان تنخرط في الحياة العامة وتضفي عليها دينامية ونمطاً عصرياً وافكاراً جديدة خلاّقة.
واللافت في هذه التجربة ان جيل الشباب يتسلم مسؤولياته في ظل رعاية ومتابعة جيل الكبار. فتلتقي حينها حداثة الابناء مع نضوج الأباء، وحماسة وحيوية الشباب مع حكمة الشيوخ. وربما في هذه الحال ستعرف الحياة السياسية نكهة جديدة، ونمطاً مختلفاً في التفكير والممارسة.
المرحلة السياسية الانتقالية بدأت مع تيمور وليد جنبلاط الذي تسلّم دفة القيادة بطريقة سلسة وهادئة وسط مبايعة ودعم من انصار وجمهور والده وحزبه ومن اركان ومشايخ الطائفة الدرزية التي تعي تماماً حجم المخاطر ودقة المرحلة وتندفع اكثر خلف قياداتها ووحدة الصف والموقف...
وهذا الانتقال السلس للزعامة الجنبلاطية ستشهد مثله الزعامة الزغرتاوية عندما يختار النائب سليمان فرنجية التوقيت المناسب لدخول نجله الشاب طوني المعترك السياسي بعدما قطع شوطاً متقدماً في بلورة شخصية مستقلة ومثقفة وواعية ومحببة وفي بناء علاقة ثقة ومودة مع الناس.
الوضع يختلف مع النائب سامي الجميل الذي تحيط بمسألة تسلّمه قريباً رئاسة حزب الكتائب انتقادات و"هنهنات" واعتراضات لن تلبث ان تهدأ بعدما يكون قد اتضح للجميع، داخل حزب الكتائب، ان هذا الخيار هو الأنسب والأفضل للحزب.
أولاً، سامي الجميل شاب ناجح وأثبت وجوده ونجاحه قبل ان تطأ اقدامه أرض الكتائب، وصاغ شخصية متمايزة ومتحمسة مليئة بروح النضال والالتزام.
دخل سامي الجميل إلى قلوب الشباب في الحزب قبل ان يدخل إلى حزب الكتائب. ولم يحبه الجيل الكتائبي الجديد لأنه حفيد مؤسس حزب الكتائب وابن رئيس سابق للجمهورية، وانما لأنه قدّم نموذجاً ناجحاً في مقاربة الأمور والأحداث والتعبير عن طموحات الجيل الجديد وافكاره. واعتقادي ان سامي الجميل سينجح في تحمل هذه المسؤولية القيادية لاثبات قدراته وكفاءته.
ثانياً، سامي الجميل يتسلم رئاسة الكتائب في ظل وجود ورعاية والده الذي سيساعده كثيراً معنوياً وسياسياً واضعاً في تصرفه خبرة واسعة راكمها على مرّ عقود وسنوات وتجربة غنية في الحكم والحياة السياسية والحزبية تعجب البعض ولا تعجب البعض الآخر. وهذا ما يشكل مجال افادة لنجله سامي من خبرات وتجارب ومن عبرّ ودروس الماضي.
ثالثاً، في ظل الظروف والاوضاع الاستثنائية الراهنة، ليس الوقت مناسباً للممارسة الديمقراطية بأقصى وأحسن حالاتها، ولا يتمتع المسيحيون بترف الخلافات والصراعات والمعارك الداخلية في اي مجال وعلى أي مستوى، ولا يتحملون انقسامات وتصدعات جديدة داخل احزابهم ومؤسساتهم. من هنا فان وصول سامي الجميل إلى رئاسة الكتائب يجب ان يلقى دعماً وتشجيعاً من الكتائبيين ويجب ان يعطى الفرصة الكافية قبل الحكم له أو عليه لأنه هو من سيحدد مصيره ومستقبله السياسي ومن سيتحمل مسؤولية الفشل إذا فشل ومن سيقطف ثمار نجاحه إذا نجح...
فكم من القيادات المسيحية واللبنانية انتهت بموتها وكم من بيوتات سياسية لبنانية اقفلت لأن الابناء لم يكونوا في مستوى الأباء وعلى قدر المسؤولية وفرّطوا بالامانة والارث السياسي والعائلي...
يجب ان تُعطى القيادات الشابة ولو كانت ابناء بيوتات سياسية فرصتها، خصوصآ اذا كانت جديرة بالمسؤولية ولها تاريخها النضالي والوطني. وان لا يكون التوريث السياسي سبباً لاحباط عزيمة اصحاب الكفاءات.
وعلى العكس من ذلك يجب ان تكون تجربة التوريث السياسي بطبعتها الجديدة من جيل الاباء إلى جيل الابناء مبعثاً على الامل كونها ممكن ان تؤدي الى حالة انعاش في مجتمعنا، كما يمكن ان تؤدي الى بث الحيوية وروحية التغيير والتجديد في الذهنية والممارسة التي ستجمع بين الحماسة والحكمة، وبين الاندفاع والنضوج.
فليعطُ شبابنا فرصة تسلم المسؤوليات الوطنية والسياسية ولو عن طريق التوريث السياسي اذا كانوا يستاهلون ذلك... لعله بامكاننا ان نرى وجهآ جديدآ من الانتقال الهادىء من زمن الصخب والاضطرابات والصراعات على انواعها.
كاتب وسياسي