hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - ياسر البنا

حديث "النكبة"

الأربعاء ١٥ أيار ٢٠١٥ - 07:20

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

العربي الجديد

تُحاصرنا النكبة في كل عام، وكأنها لعنة أبدية، تأبى أن تفارقنا، وتصر على أن تبقى بآلامها، وهمومها ونكدها، ملتصقة بجدار الذاكرة. هذا العام حاولت الابتعاد، وعدم التعرض لموجة البكائيات التي يزخر بها عادة شهر مايو/أيار، لكن ابنتي "منة الله"، (7 أعوام)، أفشلت عليّ مخططي، فقد كُلّفت من مُدرّستها بإعداد ثلاثة أعمال مختلفة عن النكبة الفلسطينية، وكان عليّ، بالطبع، أن أساعدها في تجهيزها.
البداية كانت، بسؤال: ما هي بلدتنا الأصلية يا أبي؟ داهمني السؤال، وجعلني أشعر بالعار، فأنا فعلاً لا أذكر أنني تحدثت، سابقاً، مع أبنائي، حول بلدتهم، ولم أنقل لهم الأمانة التي حملتها من جدي، رحمه الله، فقررت أن أكفّر عن ذنبي، وأن أروي لهم "حكاية النكبة".
أخبرتهم أن بلدتنا الأصلية هي مدينة "بئر السبع"، عاصمة النقب، وعروس الصحراء الفلسطينية. وأخبرتهم أن جدهم الكبير، محمد، "أبو حيدر"، نجا من موت استهدفه من العصابات الصهيونية، مرتين، الأولى عندما قبضت عليه تلك المليشيا الهمجية برفقة 14 شخصاً، وصفتهم على الحائط، وأطلقت عليهم النار، فقُتل 11 منهم، ونجا ثلاثة فقط، بينهم جدي، وشخصان آخران، هما حبيب جرادة، وحمدي حرز الله، بعد أن تظاهروا بالموت. وأخبرتهم أن من بين الشهداء في هذه المجزرة أربعة مسنين على الأقل، هم: علي جرادة (70عاماً) والشيخ علي بسيسو (80 عاماً)، وزوجته الحاجة سكينة (75عاماً)، والحاج محمد برغوت (70عاماً).
وأخبرتهم أن الحاجة سكينة، رحمها الله، أصابها الهلع في اللحظات الأخيرة من حياتها، قبل إعدامها من العصابات الصهيونية، فأرادت أن تعبّر عن شعورها لزوجها، لكن صوتها خرج من فمها تأتأة، بعد أن سرق الرعب من حنجرتها الكلمات. وأخبرتهم أن زوجها الشيخ علي بسيسو الذي تظاهر بالتماسك أراد أن يواسيها، ويثبّت فؤادها، لكن الكلمات لم تخرج من فهمه، إلا "تأتأة"، أيضاً، بعد أن فضحه الرعب.
وأخبرتهم أن جدهم أبو حيدر، بعد أن نجا من المجزرة، قبضت عليه مرة أخرى العصابات الصهيونية، خلال رحلة هروبه إلى مدينة غزة، بعد أن تسلل إلى شاحنةٍ تقل من تبقى من نساء مدينة بئر السبع إلى غزة. وأخبرتهم أن ضابطاً صهيونيّاً قرر إعدامه، ورفع مسدسه نحوه، وقبل أن يضغط على الزناد، سمع امرأة فلسطينية مسنة، تنادي باحثة عن "صرة" ملابسها المفقودة قائلة: "يا مين يصلى على محمد، ويلاقي لي صرة الأواعى"، فجنّ جنونه لسماع اسم النبي محمد (عليه الصلاة والسلام)، فوجّه مسدسه نحوها، وقال: "تقولين محمد؟"، وأطلق عليها النار، فخرّت صريعة. وأخبرتهم أن الضابط اهتز عقب ارتكابه الجريمة، (ربما استيقظ شيء من إنسانيته)، حيث عاد ووجّه المسدس نحو جدي، لكنه لم يقوَ على الضغط مجدداً على الزناد، فقال له بصوت مهزوز: "انصرف إلى غزة، هيا..".
وأخبرتهم أن جدهم الأكبر الذي لم يصدق أنه نجا من الموت، بفضل كلمة "محمد"، فوجئ بأنه غير قادر على الوقوف، فقد ألزمه الرعب الأرض، فطلب الضابط من اثنين من الجنود، أن يحملاه ويلقيا به إلى داخل الشاحنة المتوجهة إلى غزة. وأخبرتهم أن جدهم لم يستطع وقتها أن يحدد طبيعة مشاعره، فقد فرح كثيراً لنجاته من الموت مجدداً، لكنه بكى قهراً على العجوز التي شاءت المشيئة الإلهية أن تكون كبش فدائه، فقد تكون أمه بالرضاعة، من يدري؟، فقد عاش يتيماً، وكان يُخبرنا أن نساء الحي الذي عاش فيه هن مَن ربتنه.
وأخبرتهم، أيضاً، أن جدهم الكبير، بعد أن عاد إلى غزة، بقي شهرين طريح الفراش في منزل أقارب زوجته، جرّاء ما رأى من أهوال. وأخبرتهم، ختاماً، أن جدهم مات من دون أن يفقد الأمل في العودة، وكان يقول: "لو خيروني بين كل ما أملك وعودتي لبيتي، سأعود إلى بئر السبع، وإذا لم أعد فسوف يعود أولادي وأحفادي، يوماً ما".
 

  • شارك الخبر