hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - أحمد فرحات

دعوة للتفكير في التفكير

الثلاثاء ١٥ أيار ٢٠١٥ - 07:16

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

العربي الجديد

هل جربتم يوماً أن تكونوا في وضعية التفكير في التفكير؟
إننا يجب أن نعيد النظر في كل هذا الأعمّ الأغلب من الركام الذي نسميه فكراً، وقرأناه ونقرأه، يومياً، في الصحف والدوريات العربية على اختلافها، لا لشيء، إلا لأنه يكرر نفسه في كل شيء، حتى في منهج النقد وادعاء النقد، والتجاوز وادعاء التجاوز، والتجديد وادعاء التجديد، والعقلانية وادعاء العقلانية بالمغايرة والتصويب.
وإذا كان الاستقراء والاستدلال هما قوام العمليات العقلية في نظر علماء النفس، وهما ما يقصدان باصطلاح التفكير، فإننا، حقيقةً، لا نعثر على شيء في كل هذا التراكم الذي نستعرضه (أو يستعرضنا غصباً عنا) اللهم إلا على صدى فكر المفكرين الآخرين في الغرب والشرق على السواء، على أساس أن الفكر لا هوية له، إلا شجرته الذاتية المستقلة فقط.
عربيا، أتخمنا تنظيراً أفقياً وعمودياً بالديمقراطية وثقافتها، وشروطها وحيثياتها، ولم نزدد على الأرض إلا فائض عجز، وضعف وتشتت، وهروب من المواجهات والتحديات التي تضرب وجودنا ومصيرنا.
كما أتخمنا تنظيراً، وحتى الثمالة، بالليبرالية وفضاءاتها الرحبة، وقبولها بالآخر، والاختلاف معه. وبعضهم اعتبر الليبرالية الجديدة، ببعديها الثقافي والاقتصادي، هي نتاج لما بعد الحداثة، التي قدّمت، بدورها، نقداً جذرياً للنظريات والمشروعات السياسية المعروفة: الماركسية، القومية، "الدينية" على أساس أنها خطابات غير قادرة على مواجهة التحديات الجديدة، لكنها لم تقدم مشروعاَ جديداً، وإنما أنواع من الحنين إلى الماضي أو المستقبل، باعتباره يخضع أيضاً لمبضع فلسفة الشيئية التي تطبع بظلالها العقول والمدارك. غير أن الذين نظّروا للحداثة، وما بعد الحداثة، وقاموا بـ "تلخيص" مجتمعات العالم، وحراكها المروحي في كل شيء، والكون العلمي والثقافي والفلسفي، وما يطرأ فيه وعليه، لم يقولوا لنا، مثلاً، إن الحداثة هي مشكلة العصر، وليست مجرد "زمان" جديد، أو "زمن" أجدّ.
"نقول إن السياسي الحقيقي مفكر ومثقف، في المقامين، الأول والأخير، وإلا لما كان جديراً بهذه الأحقية طبعاً. وعليه، هو أول من يثور على نفسه" صحيح أن المفكرين الرواد، وتلاميذهم الكبار في كل مكان، نقلوا لنا خبراتهم الثقافية والتنظيرية والنقدية ببراعةٍ تفتقت عن معارف مركزية واسعة، وذات قيمة عالية في كفاءة الخطاب والإقناع عبره، لكنهم شيّدوا، بدورهم، متاريس عالية، كان الأجدر بهم هدمها قبل أن تتحوّل إلى تديّن، أو إلى إيديولوجيا جديدة، تملأ العقول والمدارك بـ "عمى" جديد.
نعم، تحولت الديمقراطية، مثلاً، إلى إيديولوجيا (ومعها الليبرالية أيضاً) ذات صرامة، أين منها صرامة الإيديولوجيات المنقودة من طرفها، وهي حالة باتت لا تستقيم بداهتها إلا وفق منطق الفكر الأحادي الذي يستخدمها، أو يبتكر المعاني والأفكار التي تنبعث من شراراتها، وذلك كله بهدف أن تنشغل بها العقول والأنفس، ومطارح الآمال، ومسارح الأوهام. .. التفكير في التفكير ينزل بي كل يوم.. وما أكثر ما لا أعرف.
عندما نوصّف حالنا، عرباً، بالعجز السياسي والفكري الاستراتيجي والاقتصادي...إلخ، لا يعني ذلك كله أننا ننعى الحياة فينا، لأنها، أصلاً، جارية بنا، أو من دوننا. كل ما ندعو إليه هنا هو الاستقراء والاستدلال، وهما قوام العمليات العقلية في نظر علماء النفس والاجتماع والحضارات أيضاً. ثم إن العلاقات التي تتجاذب الإنسان في واقعه تتغيّر وتتعدّل في استمرار. والإنسان نفسه يتغيّر معها، ويكون، بالتالي، عرضة للمغايرة والاختلاف وتعديل نشاط العقل وسلوك الإرادة فيه.
وعليه، إذاً، لا فائدة من الذين يتحسّرون ويذلون وينعون الحياة، فمن يمضي بهذه النمطية، هو الذي ينعي نفسه، وتجربته في السياسة والثقافة والحياة، قبل الأوان.
وإذا ما توخينا حظاً أكبر من التوضيح، قلنا إن قيمة أي مفكر سياسي، أو مثقف حضاري كبير، هو أن يعترف بالهزيمة، ولا يجعلها ألبتة تضرب ضباباً كثيفاً وموحشاً على نفسه، وباقي النفوس، ويجهد، بالتالي، على الانتقال منها إلى ما يؤهله علمياً، وعملياً، للتفوق على الظروف العاجزة.
الحياة تبعة من التبعات المفروضة على الجميع، بحلوها ومرّها، بإخفاقها ونجاحها، بيسرها وعسرها...إلخ. وميزة الإنسان المسؤول أنه من يحمل الحمل الثقيل، ولا يطيب له الفرار من وعورته، واستطراداً معالجته. والذي يهاب الحقيقة هو دوماً الذي يبحث عنها، حتى وإن لم يسعفه مشوار العمر القصير في ملاقاتها.
هكذا، إذاً، المفكر الكبير، السياسي الكبير، المثقف الكبير.. وكلهم في شخصية واحدة أحياناً، لا يسأم الانتظار، ولا يملّ المراوحات. إنه يتصدّى دوماً لإرسال المطلقات من الأحكام، ونوع التفكير الذي يرفض أن يكون مسؤولاً عن نفسه، وعن الآخرين، خصوصاً في أدق المراحل حراجة وانكفاء.
إنه، إذاً، قادر على التوليد والإبداع بزخم متدافع، وبثّ ذلك في الناس جميعاً من حواليه. ودائماً المتغيرات الإيجابية تبدأ من جهود أفراد أفذاذ، وتنتقل إلى العموم على سبيل التفكّر والاعتقاد بها.
وجه الخطر، إذاً، هو أن يعمد بعضهم - المفكّر إلى مراكمة الصور والرؤى والافتراضات الجديدة، مراكمات كمية، تتخلخل معها العلاقات الداخلية، فيما بينها، وكذلك الأولويات والضرورات. وعليه يفترض هنا تنظيم الأمور ومنهجتها، وعلى نحو منسجم ودقيق جداً، حتى ولو باتت البدايات هي النهايات، والنهايات هي البدايات.
فوق هذا وذاك، وفي نهاية هذه السطور، نقول إن السياسي الحقيقي مفكر ومثقف، في المقامين، الأول والأخير، وإلا لما كان جديراً بهذه الأحقية طبعاً. وعليه، هو أول من يثور على نفسه، ليتحرر من تسلّطها النرجسي، المرضي، والانحرافي المريع. وإنه دائماً على الدرب عينه، الذي يفترضه المستقبل، على الرغم من كل المجازفات التي لا تخلو من المهالك المميتة فعلاً أمامه. ولكن، أيضاً، ما قيمة القائد السياسي العاقل الحكيم، إذا لم يكن مغامراً فذاً على أسس المعرفة العلمية، والثقافة المتعددة الشاملة، والحراكية المتجاوزة، وتنكّب القرار الضارب في العمق؟
السياسي الحقيقي يملأ عقله وقلبه وعينيه من كل شيء فيه، وفي غيره أيضاً، بعيداً عن النفاق والإسراف في المجاملة.
 

  • شارك الخبر