hit counter script

مقالات مختارة - نجوى بركات

إلا هذا الربيع

الثلاثاء ١٥ نيسان ٢٠١٥ - 06:48

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

العربي الجديد

مضت أربع سنوات وأنا في بيروت، أبحث عن بيروت التي لي. أحياناً، ألتقيها في الزوايا الخفية عند درج عتيق ما، في روائح تنبعث، فجأة، من حدائق مختبئة في بيوت تبدو، لندرتها، وكأنها سراب، أو مع حانوتي نسيه الزمن، تجده محنياً تحت ثقل الذكريات، وراء بضاعة متنافرة تتراكم لتحميه.
إلا هذا الربيع! كأن المدينة التي كدنا ننسب طقسها إلى كل ما يحيط بها من بلدانٍ نسيها الربيع، استفاقت فجأة على ماضيها، أو كأنّ الربيع فيها استفاق.
أجلس أمام البحر، تحت سماء وقحة الصفاء والزرقة، وتهبّ نسمة أحتمي منها بكنزة رقيقة من الصوف. نحن في نهاية نيسان (أبريل) السعيد. نيسان دائماً سعيد، مهما جار وقسا. أغمض عينيّ، فأراني طفلةً تغادر البيت إلى المدرسة سيراً على الأقدام. أرى الحمّيضة المطلّة برؤوسها الصفراء، وكأنها قد تعرّت للشمس، سيارات قليلة، وبيوتاً بعتبات واطئة، لا ترتفع بأكثر من طابقين أو ثلاثة. أرى أمهات وادعات آمنات يدفعن أبناءهن إلى بداية النهار، ونسوة يغسلن درجاتٍ ثلاثاً، أو أربعاً، سيجلسن عليها بعد قليل لاحتساء القهوة، فيما تنقي أناملهن الرقيقة العدس والأرز.
كان الربيع اللبناني يحل دائماً في موعده، دونما مواربة أو تأخير، كأنّ هناك جيوشاً سرية تأتي ليلاً لتلملم هواء البلاد بأكملها، تنفخ عليه وتعالجه، قبل أن تعيد إطلاقه ناعماً، معطراً، موقظاً ومثيراً كل الحواس.
لا أنام. أبقى أفكّر أننا، في يوم الاحتفال ببداية الربيع، سنخلع مراويل المدرسة وأحذيتنا الداكنة الصارمة، ونطلق العنان لشغفنا بالألوان. كانت مدارس لبنان كلها تحتفل بقدوم الربيع، وتترك لأبنائها فرصة التفلّت والتشكيل. كنت أحسبه عيداً للحرية، حرية أن أختار من الملابس ما أريد، أن أعرّي أصابع قدمي الصغيرتين، أضع زهوراً في رأسي وعقوداً من الصدف وأساور، وأغني مرسلة روحي إلى الفضاء. كان أكثر المناسبات غلاوة على قلبي، لكأنّ طعمه الممزوج بطعم الحمّيضة التي كنت أجمعها من على جوانب الطريق وأقضمها، هو طعم الحرية. لو كان للحرية طعم، لكان حموضة أعشاب الربيع وفاكهته. الخوخ الفجّ الحامض، واللوز الأخضر، وثمار تُقضم وتفقع في الحلق. مذاق السكّر لا يلائم الحرية. الحموضة نكهتها.
أغمض عيني فيما الشمس تنظر فيهما، وأراني أسير على حافة نهرٍ كان ذات يوم نهراً، أفتح ذراعيّ على مداهما، وحين أرخيهما، أقع في هوى أشجار الأكاديني التي، ما إن أرى منها شجراً ناجياً في بيروت اليوم، يغمرني موج أيامي الهانئة تلك. أشجار الأكاديني والليمون، وواحدة لها زهور عملاقة هي الفتنة، وحشائش تنمو، كيفما اتفق، في الفسحات الصغيرة البائرة التي نسوها، والتي ستمحو أثرَها، لاحقاً، جرّافاتُ الإسفلت والباطون.
تسقط تلك الدمعة الحمراء في البحر، ويزداد النيليّ قتامة وسعة. وإذ يبدأ المساء هبوطه، يجتاحني ذلك الحنين الخافت إلى منطقةٍ كانت مرتعاً لبساتين الليمون، ولبيوت عشوائية بُنيت على عجل للوافدين إلى العاصمة، من القرى والجبال، ومن شعوب ضربتها زلازل الإبادة وسواها من حروب القتل والتهجير. أذكرها بيتاً بيتاً، وواحداً واحداً، في حيّنا القديم ذاك. أرمن وشركس وأتراك، من حلب ومن الشام ومن بر الأناضول، ومن الشمال ومن الجنوب، وفوقهم كلّهم غيلان تقف للأولاد بالمرصاد، تغرينا بالسكاكر والألعاب، لكي تختطف أجسادنا الطرية، تشرب دماءنا، ثم ترمينا جثثاً هامدة في نهر كان نهراً، وفي مياه التي ليست كالمياه.
"سمير حمار في البيت وفي المدرسة"، أقرأ مكتوباً على حائط بالفحم الأسود، فأضيف بطبشورتي البيضاء، "وفي كل مكان"، ثم أركض مذعورة مرتعدة من أن يقبض عليّ سمير الذي أجهل، أو سواه.
الربيع الذي أودعته هناك، يجالسني الآن، أمام بحر ناء ومساء وديع، فيما تلفنا البرودة المنعشة ذاتها، وذاك الشجن الحنون.
 

  • شارك الخبر