hit counter script

مقالات مختارة - سعد كيوان

لبنان البوسطة المخطوفة

الأحد ١٥ نيسان ٢٠١٥ - 08:56

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

(العربي الجديد)

قبل أربعين سنة، أشعلت بوسطة لنقل الركاب فتيل الحرب في لبنان، وبعد أربعين سنة ما زال لبنان مخطوفاً في بوسطة. عُدّل الدستور بهدف إعادة تركيب السلطة ودوزنة الصلاحيات بين السلطات، ووقعت وثيقة "الوفاق الوطني"، وتغيرت قوانين، وذلك كله من أجل "العيش المشترك" أو "العيش معا" بين طوائف ومذاهب لبنان (ثمانية عشر) المتعددة والمتنوعة. ثم كانت مرحلة إعادة الاعمار وإعادة شرايين الحياة إلى مختلف مرافق الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية، على يد رجل يدعى رفيق الحريري، تم اغتياله واغتيال حلم اللبنانيين معه.
مصالحات تمت، وحوارات جرت، ونقاشات، ولقاءات ومؤتمرات وخلوات نظّمت، وبرامج ومشاريع أطلقت، وتجمعات وتكتلات وحركات جديدة قامت، وأخرى أجهضت قبل أن تبصر النور. ناهيك عن منظمات وهيئات من المجتمع المدني عملت على المصالحة وتنقية الذاكرة، وسعت إلى ترسيخ السلم الأهلي، وإعادة اللحمة بين الأهالي في المناطق والمدن والأحياء، وناضلت وتناضل، من أجل معرفة مصير المخطوفين والمفقودين ومجهولي المصير، منذ نحو خمسة وعشرين سنة، وعددهم عشرات الآلاف.
غير أن السلطة بقيت مخطوفة ومأسورة ضمن تلك "البوسطة" التي يقودها معلومون-مجهولون، السلطة التي من شأنها أن تلعب دور قائد السفينة، وترعى السلم الأهلي، وتُحول لبنان إلى دولة المواطنة، وتدخله في عصر الحداثة، وتحرص على الانتظام العام، وعلى حقوق اللبنانيين وواجباتهم كمواطنين. ظلت هذه السلطة تحت الوصاية نحو عشرين سنة، استمرت مشلّعة المؤسسات، مفسّخة، مسلوبة القرار، يعشعش فيها الفساد. فساد الوصي والمحتل والمفسد، وفساد الوصولي والانتهازي والخانع الضعيف. الوصي والانتهازي والتبعي جلسوا معاً في بوسطة واحدة، يقودون اللبنانيين إلى المجهول، إلى اللامكان المشدود إلى ماضي الحرب الذي يريدون له ألا يمضي. حاضرٌ حاولوا إبقاءه مشدوداً إلى المتاريس، من أجل أن يبقى الاقتتال حاضراً، ليس فقط وبالضرورة بالسلاح، وإنما بالمواقف وتعبئة النفوس وشحنها بالضغينة والأحقاد والجهل بطبيعة الحال.
ويحتاج إبقاء السلطة محشورة في البوسطة إلى متخاصمين، وجبهات متواجهة، ودويلات قائمة تستبيح الدولة، وإلى التعبئة الطائفية والمذهبية، وإلى شحن النفوس والعقول بالتعصب والتخلف. وهذا ما حصل بعد انتفاضة 14 مارس/آذار 2005 إثر اغتيال رفيق الحريري، والتي أخرجت الجيش السوري مرغماً من لبنان، بعد احتلال دام نحو ثلاثين عاماً. وبدل أن يتوحد اللبنانيون، من أجل انطلاقة جديدة، وإعادة بناء بلدهم، بعد أن استعادوا حريتهم وسيادتهم، أوكل إلى الطرف المتحصن بأيديولوجية دينية والأكثر ظلامية وشمولية، والأكثر تبعية للخارج، والوحيد الذي بقي متمسكاً بسلاحه من بين كل الميليشيات السابقة، لعب دور وكيل الوصي، إذ انبرى زعيمه، يومها، إلى شكر بشار الأسد على ما قدمه من "خدمات جلّى" للبنان. فأعاد تجميع يتامى زمن وصاية السلطة الأمنية السورية تحت جناحه، وتصدر محور الإبقاء على النفوذ السوري، وتعزيز الإيراني، لكي تبقى السلطة مقبوضاً عليها ضمن البوسطة، أي مخطوفة، ولكي بيقى الشرخ عميقاَ بين اللبنانيين.
كان هذا نهج حافظ الأسد وتكتيكه، وهذا ما دأب عليه طوال سنوات هيمنته على لبنان، معتمداً "سياسة فرق تسد" التي مكّنته من إدارة اللعبة والاحتفاظ بخيوطها، واستعمال طرف ضد الآخر متى يشاء. المسيحيون ضد المسلمين والعكس، واللبنانيون ضد الفلسطينيين وبالعكس، وفي الوقت عينه، إبقاء جذوة الاقتتال مشتعلة بين من صنفهم "عروبيين" وآخرين "انعزاليين"، وأحزاب متخندقة خمسة عشر عاماً ضد بعضها.
في السنوات العشر الأخيرة، قام حزب الله بدور المعطل الأساسي للسلطة، عبر إحياء المواجهة بين اللبنانيين، مستعملاً كل الأدوات التي في حوزته، بما فيها تجنيد حلفاءٍ له في ما يسمى "محور الممانعة"، ووضعهم في خصام مع بيئتهم. فهو يتصدر المواجهات العسكرية منها أو الأمنية، ويخوضها متبعاً أسلوب اللعب على حافة الهاوية، كي يتسنى له إعادة توظيفها في ابتزاز خصومه السياسيين. هكذا فعل في صيف عام 2006، عندما خطف جنديين إسرائيليين (تبيّن فيما بعد أنهما كانا متوفييّن عند خطفهما) لتشن إسرائيل حرباً عدوانية تدميرية على لبنان، لم توفر البشر والحجر. بعدها، أقر حسن نصرالله بأنه "لو كنت أعلم أن إسرائيل ستشن حرباً مدمرة، لما خطفنا الجنديين". وفي نهاية ذلك العام نفسه، حاول حزب الله منع إقرار إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، فاحتل وسط بيروت، وحاصر السراي الحكومي، وعطل انتخاب رئيس الجمهورية، وشل الحياة السياسية والاقتصادية سنة ونصف السنة. وعندما فشل في تحقيق أهدافه، لجأ الى السلاح، فاجتاح في 7 أيار/مايو 2008 العاصمة، ليتمكن من فرض شروطه في "اتفاق الدوحة".
وبعد فشله في انتخابات يونيو/حزيران 2009 في تحقيق أغلبية نيابية مع حليفه ميشال عون، أصرّ على الحصول على ما يسمى "الثلث المعطل" (أي الثلث زائد واحد) في الحكومة التي ترأسها سعد الحريري، في ظل عجز "فريق 14 آذار السيادي" وعدم قدرته على وضع استراتيجية بديلة. وما إن لاحت له فرصة تعطيل الدولة مجدداً وشل المؤسسات، حتى قرر سحب وزراء التحالف المعطل ("حزب الله" + عون + نبيه بري) من الحكومة في نهاية 2010 فيما كان رئيسها يدخل البيت الأبيض للقاء الرئيس الأميركي، باراك أوباما. وعندما رأى أن تكليف تشكيل حكومة جديدة سيعود مجددا إلى الحريري، نشر ليلاً مجموعة "القمصان السود" بالسلاح في شوارع بيروت، فكان له ما أراد، وانتقل التكليف إلى نجيب ميقاتي.
هذه نماذج من كيفية خطف السلطة التي يمارسها فريق مدجج بالسلاح، يتمتع بأكثر من وسيلة لتحقيق أهدافه، أهمها قوته العسكرية، وسعيه إلى الإمساك بالمؤسسات. فلديه، أولاً، قدرة الضغط على طائفته، ورصها خلفه، ولديه، ثانياً، القدرة على ممارسة الضغوط على الطبقة السياسية بأكملها، لابتزازها وفرض الأمر الواقع عليها. وهو اليوم يحاول ثانية فرض ميشيل عون رئيساً للجمهورية، بتعطيل عملية انتخاب الرئيس الشاغر منصبه منذ نحو سنة، عبر تهريب النصاب في مجلس النواب وشل البلد.
لبنان لا يزال، إذاً، مخطوفاً في بوسطة معرضة للانفجار في أي لحظة، على وقع التطورات الإقليمية، وعلى الأخص السورية، طالما أن طرفاً يمارس وظيفته الإقليمية الإيرانية على أكمل وجه.
 

  • شارك الخبر