hit counter script

مقالات مختارة - نسيم الخوري

الوقار العربي الدولي

الإثنين ١٥ نيسان ٢٠١٥ - 09:50

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

أخذ العديد من الزملاء علينا حول النص الذي نشرناه بعنوان" الكتابة المستحيلة في الشرق الأوسط"، أخذوا علينا، المغالاة في تقديم العربية كمؤشّر رئيس بل كعنصر تاريخي يتقدّم كثيراً في حسم المواقف والكتابات والمستقبل من الصراعات المستوردة الدائرة في أرض العرب. واقع الحال، معظم المحاججات العقيمة التي حاولت التقليل وحتّى الهزء من سلطات اللغة في تكوين الأمة أو إعادة تكوينها لم تثنني عن القناعة بأنّ العرب من دون أيّ تفرقة في ما بينهم بدأوا بالتراجع وأوغلوا في أدبيات الدين الإسلامي القديمة، منذ ما قبل عصر العولمة، وخصوصاً عندما سلّموا قضاياهم ومآسيهم كلّها الى مربع ألسنة/عقول غير متساوي الأضلاع وغير عربية بل إسلامية تعتورها الرطانة مثل اللسان التركي والإيراني والفرنسي والإلماني والأفغانستاني وغيرها وكلّها منخورة باللسان الإسرائيلي، وهي ألسنة على تنافرها وتقاطع مصالحها تبدو ملفوفة، بل تحت مراقبة الألسنة العالمية المتنوعة وفي رأسها الإنكليزية. قد يتساهل المحاجج أحياناً في نقد لغته القومية لا نبذها في عصر بات معظم الدبلوماسيون يملكون لغاتٍ أخرى، وباتت العديد من الدول تمنح دبلوماسييها الحظوات المادية والمكافآت إذ يتمكّنون من لغتنا الضاد، لكنّ التفاوض والإحتكاك الرسمي باللغة الأم هو الأبلغ والأرقى والأقوى. وفي هذا المجال قد لا أبالغ إن طرحت حتّى مسألة سلطات اللغة العرقية التي تأخذ فلسفتها في سلوك الأمم الراقية.

فماذا نعني بلسطات اللغة العرقيّة، إذاً؟ وكيف نسحب اللسان العربي من دينه الى عروبته؟
يجد الباحث إشارات قديمة لا تموت لكنها تتجدّد، تربط بين اللغة والجنس تدليلاً على سلطات اللغة العرقيّة أو على ممارسة السلطات الأخرى بشكلٍ عام، إذ تختلف اللغة باختلاف الناطقين بها، وفقاً لأعراقهم وصفاتهم البيولوجيّة. فلغات ذوي السحن السمراء مثلاً وربّما مجعَّدي الشعر تختلف عن لغات مالسيه ذوي السحن البيضاء، ويختلف مستطيلو الرؤوس في لغاتهم عن مستديريها. ولقد استفاد من هذه الإشارات السياسيون الدوليون والدبلوماسيون وعلماء النفس في تحضيراتهم للمفاوضات الصعبة، ففرقوا بين اللغات الهندية - الأوروبية واللغات الساميّة والحاميّة. وقسمت الشعوب إلى أصحاب لغات راقية، أو متخلّفة، قاصرة عن المعاصرة أو غير قابلة للتطور. وقد نجد دعائم قوية لهذه النظرية حتّى اليوم في في ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وأدبيّاتهم .
ونجد مدى تأثيرات هذه المسائل عبر الأحكام التي توصَم بها اللغات ، ومنها ما يرشح على ألسنة مفكرين يديرون ظهورهم، اليوم تحديداً، الى تراثهم أو الى اللغة العربيّة، فينعتونها بأوصاف وتهم تجعلها عاجزةً وضعيفة ومصدر خجل، مثلاً، عن مجاراة العصر، أو تعاني الشح في مصادرها أو طرائق تحصليها وعصرنتها وقدرتها الإقناعية. وهي بذلك تخضع لرواسب، وتصنيفات وأفكار عرقية من هذا النوع قد لا تستقيم علمياً. تُعتبر هذه النظرة مرفوضة لأنّ فرداً ينمو لدى شعب غير شعبه الأصلي يكتسب لغته، وإذا احتاج تعلّم لغة شعبه الأصلي، فتجربة من المراس الشاق والطويل تنتظره. وقد نجد لغات في التاريخ، فرضت نفسها على الشعوب الأخرى، مثل الإنكليزية، والفرنسيّة، وأجادوها تقريباً مثل أهلها دون أيّ اعتبار لمسائل مثل الجنس، أو اللون، أو العقلية لدى هذه الشعوب المختلفة بينما نجد العربيّة أسيرة التلعثم وصعوبة المراس لأنّ فيها ومنها أخرج الإسلام لغةً. وإذا ما قصّرت لغة في صهر المفاهيم والمصطلحات، فليس لقصور فيها، بل في سلطات أهلها، ومواقعهم، وقدراتهم ، وقصورهم وإكتفائهم بالتلذّذ بالماضي ولو أنّ الزمان غالباً ما يأتي مصحوباً بتحدّيات لغويّة حضارية أخرى تعكس سلطات شعوب أخرى وقوى متشاوفة تنمو في التاريخ وتقهر غيرها. فاللغة لسان واللسان إنسان والإنسان لا الإله هو الميزان الدقيق للحفاظ على تراثه وحضارته ومستقبل شعوبه ومواقعها في التاريخ والقرارات.
كانت اللغة ترتكز على حمل الأفكار والمفاهيم والحضارات وطرائق التعبير، وتكاد تضمر اليوم لتنحصر في الاتصال كوظيفةً محوريّة لها مستخدمين الكلام المباشر الوسيلة الأهم ولو كانت من نوع اللتلتة على صفحات الفيسبوك أو غيرها من الصفحات الوهمية القراءة السريعة الفناء والتأثير، نستخدمها لنشارك الغير ومن دون أن نسقط من الاهتمام الفروقات في الاستخدام بين شخص وآخر أو بين ذكر وأنثى. يبعث هذا الكلام كجسد مقروء هلامي محور اهتمامي لإعادة الربط بين الهوية واللسان والنص مشافهاً أو مكتوباً. فالانسان لا بدّ أن يكبت أو يتسامى كي يصل إلى الثقافة واللغة والتحقق، كما أن الكلام يتّوسع ليشمل الجسد المتحرك الحر وخصوصاً هنا جسد الأنثى العربية والإسلامية، فلا يعود الاتصال محدوداً فقط بالكلام بل بالجسد المزدوج للتكاثر أي بالأمة في كلّيتها. وبهذا تتقشّر النصوص والألسنة من إستبدادية التجمّد في المفاهيم والأخلاق والرؤى واللغة كمسائل غير قمعية تستعملها الطبقة الحاكمة "الراقية" المتعددة اللغات والألسن والوجوه بإسم ملكية الأنا والأنا الأعلى بمعنى السلطات التي يصدّق أصحابها بأنها لا تموت ولا تندثر، ولهما لغتهما أو سلطتهما المستمدة من انضباطيّتهما وتاريخهما. وتصبح العلاقة بين الكلمة وما ترمز إليه تشابه العلاقة بين الأب والطفل في انتقال لأسطوريّة اللغة والقيم التقليديّة والسلطة حيث الشروع بالكلام هو توارث التحقيق الاجتماعي للمتكلم. أحسن مثال على ذلك عندما يرتفع الصوت وتحمرّ الوجوه وتقوى سلطة الكلام بالنبرة لدى منح الحرية للأطفال أو للمحرومين من الكلام أو التنفّس اجتماعياً والذين يكتسبون سلطة خاصة بهم باهرة لدى التعبيرليوصم كلامهم أحياناً بأنه كلام مجانين يحمل البذور الأصيلة في التغيير. ويتخذ كلام المجانين صفة رمزية تشغل محور اللاوعي إلى درجة أن سلطة الكلمات قد بلغت حدودها القصوى حين نعتبرها حاضنةً للأشياء والأحلام.
إن ممارسة علم النفس التحليلي، مهما تشعّب مثلاً، تؤكد سلطة الكلمات الأم في التحليل حقيقة لأن الطرائق التي يتمّ فيها الكلام من حيث حلحلة العقد، وانتفاء الشلل، ووضع حدود للأمراض تجعل كلّها من سلطة الكلام حقيقةً هائلة، وتصبح اللغة شرطاً من شروط تحقيق الذات، بصرف النظر عن خالق اللغات والمتكلمين، إذ تحدد سلطات الكلمات في الوقت نفسه الذي تُحدد فيه جدواها أي الذاكرة وقوة المتكلم والعلاقات الناتجة مع الغير.
لقد شغلت المسائل اللغوية تاريخ الأمم، وانفتحت نزولاً حتى نحو قراءات السلوك والتقلصات العضلية المصاحبة للكلام والمحققة لهيبة المتكلم. لذا نحن كعرب لم نخرج بعد نحو اللغة المتحررة التي تتحول إلى دواءٍ في تجسّدها الكلامي حيث أنّنا لم ندخل بعد عصراً حافلاً بالتحليلات والمعالجات العصرية القائمة على إزالة التوتّرات عن طريق الاتصالية المبسطة، فتزول المشاعر والأوهام والتصورات القديمة لمصلحة الحرية في الكلام وقبوله والحركات الحرّة، وكل ذلك بهدف إعادة اكتشاف الطاقة الاتصاليّة أو اللغويّة خارج دوائر العلاج النفسي كما هو حاصل في الغرب.فالعربيّة ما زالت على وقارها الدولي، توغل في قيمتها الدينية، مهما كان شكلها وصمتها، لأنّها مرآة قوة الشخصية في تحليلها. وإذا كان هناك أهمال لمستويات اللسان في التعبير العربي أو الكلام، فإنه تغافل عن مسألة مهمة نقترح تسميتَها بالرأسمال اللغوي أو المستوى اللغوي الذي يفرّق بيننا وبين الآخرين، ويكون وجهاً من وجوه إعادة إبراز الشخصيّة في قوتها وحدودها وسلطاتها الثقافية في مستقبل الألسنة والحضارات.
الدكتور نسيم الخوري
 

  • شارك الخبر