hit counter script
شريط الأحداث

نعمة افرام: لبنان ما عاد يحتمل التباسات في مفاهيم تأسيسية غائبة حتى اليوم

الثلاثاء ١٥ آذار ٢٠١٥ - 13:51

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

القى عضو مجلس أمناء "ملتقى التأثير المدني" الأستاذ نعمة افرام كلمة في ندوة تحت عنوان "الأمن القومي في لبنان" جاء فيها: "شَهِدَت أوروبا على امتدادِ تاريخِها الطويل، صِراعاتٍ دينيةًّ وإتنيّةً وقوميَّة. واندلَعَت على أراضيها حروبٌ قاسيةٌ بين إمبراطوريّاتِها المُتناحرة، خلَّفَت الكثير الكثير من الموت والدَّمار.
ضِمْنَ هذا السِّياقِ المُلتهِب، شكَّلت سويسرا علامةً فارقةً واستثنائيّة. فعلى الرَّغْمِ من التنوُّعِ الدينيّ في مُكوِّناتِها الحضاريّةِ المتعدِّدة، استطاعَت أن تُحيِّدَ ذاتَها، وأن تتجاوزَ حروبًا طائفيّة أوروبيّة عَصَفَت في جِوارِها ما بين العام 1618 والعام 1640.
وعلى الرَّغْم من تَعدَّدِ اللغات والقوميَّات في نسيجِها المُجتمعيّ، تفادت سويسرا صراعَ المَحاورِ وتحاشَت الحُروبَ الألمانيّةَ - الفرنسيّة العام 1880، والحربَ العالميّة الأولى والحربَ العالميّةَ الثانية.
كان شعبُها قد أقسَمَ اليمينَ على ميثاقٍ وُقِّعَ العام 1291، عُرِف بإسم "الميثاقِ الدائم". تمسَّكَ الشعبُ به طويلاً، فساندَ بعْضُه البعضَ وتعهَّد الجميعُ الدِّفاعَ عن الأرْضِ وتحييدَها. وبعدَ الخَضّةِ الكُبرى التي أحْدَثها نابُليون في أوروبا في القرنِ السابعِ عشَر، طوَّرَ المواطنونَ السويسريّونَ عقْدَهم الوطنيّ وترجَموهُ في دُستورِ للبلاد العام 1848، لا يَزالُ معْمولاً بهِ إلى يومِنا هذا.
لقد عَرَفت سويسرا كيفَ تَصنَعُ الغِنى مِن التعدُّد، بدلاً من أن يكونَ تنوُّعُها سببًا للويْلات. وهي أسَّست لمفهومٍ عميقٍ متكاملٍ يَحفَظ مصالحَها وأمنَها واقتصادَها، كانت تَرجَمتُه تطويرًا لحياة المواطنين وتحقيقًا لرَفاهيّتِهم وسعادَتِهم. هكذا صانت أمنَها القوميّ، فتألَّقت.
***
في المَقْلَبِ الآخَر من البَحر الأبيض المتوسِّط، وفي نفْس التوقيتِ للأحداثِ الأوروبيَّة، عَقَد ثائرونَ مسيحيّون ودروز وشيعةٌ وسُنّةٌ مؤتمرًا في إنطلياس العام 1840. وأقسَموا اليمينَ على أن يَظَلّوا يدًا واحدة وتعاهَدوا على أن يُجابهوا ويُحاربوا معًا فيكونُ لهم استقلالُهم أو يَموتوا. فعرفت حركتهم هذه بالعامّيّة ودَخَلَت تاريخَ الوطن.
هو ربيعٌ لم يُزهِر يومَها، إذ سُرعان ما قُسِّمت البِلاد إلى قائمقاميّتَين، العام 1842. تسبَّب ذلك بتوسيعِ رُقعةِ الخِلاف بين الطوائف، حتى مذبحة العام 1860. وبعدَ عامٍ واحدٍ من الفِتنة الطائفيَّة، تمَّ الإتّفاق بين دول أوروبية وتركيا، على اعتبارِ لبنان ولايةً مُتصرّفيَّةً مستقلّةً، وَفْق ما عُرِف بنظامِ البروتوكول. ورَغم الاستقرارِ النِّسبي الذي شَهِده الوطنُ مع هذا النظام، لم يَنجح اللبنانيّونَ في نسْجِ عقْدٍ وطنيّ يَقيهم سياساتِ المحاورِ ومصالحَ الدول، ولا في ردْمِ الهُوّةِ ما بَينَهم.
ومع نهايةِ الحرْبِ العالميّةِ الأولى العام 1918، اشتدَّ الجدَلُ بين القَوميّينَ اللبنانيّين والقوميّين العرَب في شأنِ هُويَّةِ وحدودِ لبنان.
أَعلنَ الإنتداب الفرنسي قيامَ دولةِ لبنان الكبير، لتتّخِذَ هذه الدولةُ وجْهَ الجمهوريّة اللبنانية العام 1926. بعد الإستقلال العام 1943، وضع اللبنانيّون الميثاقَ والصيغةَ في مشروعٍ حضاريٍّ التقوا فيه على ثوابتَ الحُرّية، والمساواة في المُشاركة، وحِفظ التعدُّديّة. وتخلّى بعضُهم عن حُلُمِ الوَحدة مع سوريا مقابلَ قَبولِ بعْضِهم الآخَر بالهُويّة الوطنيّة العربيّة.
رَغْم ذلك، فَشِلت البلادُ في بناءِ مناعةٍ وطنيّةٍ تُجاهَ المُتغيّراتِ من حولِها. فأدّى قيامُ دولةِ إسرائيل بقوّةِ الاغتصابِ على أرْض فِلَسطين وتدفّقُ اللاجئين الفِلسطينيّين إلى لبنان، إلى انفتاحِ الجُرحِ بين اللبنانيّين على صدى تداعياتٍ كثيرة، بعضُها سياسيٌّ محليّ وإقليميّ ودَوليّ، وبعضُها إجتماعيّ- إقتصاديّ.
في ظل هذا المسار الإنحداري، وبعد أزمة العام 1958، ورَغم صُعودِ الناصريّة أوائلَ الستّينات وتَضارُبِ أهواءِ اللبنانيّين تُجاهَها، أتت تجربة الرئيسِ فؤاد شهاب علامة فارقة في تاريخ لبنان. فاستطاع بحكمته استيعابَ التحدّياتِ الداخليّةِ والخارجيّة، والتأسيسَ لبناءِ دولةٍ حديثةٍ ومؤسّساتٍ مُنتجة، سرعان ما للأسف اختفت مفاعيلها مع توقيعُ "إتفاق القاهرة" الذي شرَّعَ حريّةَ العملِ الفِدائيِّ الفِلسطينيِّ في جَنوبِ لبنان.
ثم جاءت أحداث "أيلول الأسود" في الأردن. أدّى ذلك إلى تدفُّق كَمٍّ كبيرٍ من المقاتلين الفِلسطينيين، تسبّب بصِداماتٍ مسلَّحةً ما بين الجيش اللبنانيّ والمقاومة الفلسطينية العام 1973. إنفجرت أزْمةً سياسيّة داخلية اتّخذت طابَعًا طائفيًّا، تضارَبَت فيها شِعاراتُ الغُبنِ والحِرمان والوجود الحُرّ.
سقَط لبنان في امتحانِ المناعةِ الداخليّة، فانفتَحت عليه أبوابُ الجحيم. هكذا اندلَعت حربٌ داميةٌ العام 1975، شاركت فيها المنظّماتُ الفلسطينيّةُ بقوة. فغرِقَ الكُلّ في ليلِ الحرْبِ وظُلْمتهِ الدامسة. وتراكَمت الإنعكاساتُ السلبيّةُ للأحداثِ على الوطن من يومها. دخَلَ الجيشُ السوريّ لبنان العام 1976. زار الرئيسِ المِصريّ أنور السادات القُدس العام 1977. غزا الجيشُ الإسرائيليُّ الجَنوبَ وأنشأ "الشريطَ الحُدوديّ"، ثمّ احتلَّ بيروت العام 1982. إنسحبت "منظّمة التحرير". انعقدَ مؤتمران للحِوار الوطنيّ في سويسرا العام 1983 والعام 1984. تمَّ التوقيعُ على "وثيقةِ الوِفاق الوطني" العام 1991. تحرَّرت الأرض اللبنانيّةُ العام 2000 بعد إحتلالٍ إسرائيليٍّ دام 22 عامًا. وانسحب الجيش السوريُّ بالكاملِ بعد ثلاثينَ سنة العام 2005...
طوال هذه السنوات إلى يومنا هذا كانت الجمهورية تحترق، إلى أن وصلت إلى الشلل التام وإلى حافة الإنهيار الكبير. ----الحمد الله على أن قوانا المسلحة بقيت خارج هذا التحلل، وهي تبقى اليوم المعقل الأخير للفعالية والمأسسة في ما تبقى من جمهوريتنا .
لَم يعرِف لبنان أن يحصن نفسه وأن يحفَظ مصالحَهُ وأمنَه واقتصادَه، ولا أن يُمتِّن عقدَه الوطنيّ، لتكون تَرجَمتُه تطويرًا لحياة المواطنين وتحقيقًا لرَفاهيّتِهم وسعادَتِهم.
إننا على عكسِ سويسرا، ضيَّعْنا العديدَ من الفُرصِ التاريخية لتأسيسِ مفهومٍ عميقٍ ومتكاملٍ لأمنِنا القوميِّ، فهَل نَستعيدُ مواعيدَ التاريخِ وننجحُ اليوم؟!

***
أيُّها الأحبّاء،

لِهذهِ الأسباب، كانت مُبادَرَةُ "مُلتقى التأثيرِ المَدنيِّ" بالتَّعاونِ الوَثيقِ مع الجيشِ اللُّبنانيِّ ممثَّلاً بقائدِهِ العِماد جان قهوجي، للبحْثِ في العُمْقِ بمَفهومِ الأمْنِ القَوميِّ في لبنان.

إنّي بإسمِ "مُلتقى التأثيرِ المَدني"، وبإسمي الشخصيّ، أُوجِّه الشُّكْرَ إلى قيادةِ الجيش. وإلى كافَّةِ ضُبَّاطِ ورُتَباء وعَناصرِ قِوانا المسلَّحةِ، الذين يَبذُلون الغالي والرَّخيصَ في سبيلِ حمايةِ لبنان.
الشُّكرُ أيضًا أوجِّهُه إلى كلِّ المُنظّمينَ والمُشاركينَ والسفاراتِ الحاضرة، وإلى كلِّ الإعلاميّين، مع شُكرٍ خاصّ إلى مرْكزِ البُحوث والدِّراساتِ الإستراتيجيَّةِ في الجيشِ اللُّبناني.

أيُّها الأحبّاء، يجمَعُنا اليوم لبنانُ الرِّسالةُ والعيشُ معًا. يجمَعنا طُموحٌ إلى لبنانٍ مجدَّدٍ على قواعدِ الإستقرارِ والنموِّ الإقتصادي الجامع، في عيشٍ مشتركٍ منتجٍ بدلاً من عيشٍ مشتركٍ عقيم.
ما عادَ لبنان يحتمِلُ التِباساتٍ في مفاهيمَ تأسيسيَّةٍ غائبةٍ حتَّى اليَوم عن مُستوى الرؤية، والأداء، والتقييم.
ما عادَ لبنان يحتمِلُ استمرارَ الخللِ البِنيوي المُتمادي في نِظامِه التَّشغيلي والإقتصادي والإجتماعي.
وما عادَ لبنان يحتمِلُ اللاتوازُنَ الذي يحكُمُ العلاقةَ بين القِطاع العامّ والقِطاع الخاصّ والمجتمعِ المَدني.
وما عاد لبنان يحتملُ أن تأسُرَهُ مسائِلُ إقليميَّة ودَوْليَّة، لا علاقة لمصلحته الوطنيَّة العُليا بِها.
إنّنا كمجموعةِ ضغْطٍ في "مُلتقى التأثير المدَني"، نرى ان المطلوب تغيير هذا الواقع والدخول في زمن جديد، نعالج فيه هذه المواضيع بعمق. فهذا كله يؤسس لمفهوم الأمن القومي اللبناني، ويؤمن للبنان جهاز مناعة قادر وفعال، من دونه يكون أمننا القومي مجتزأ أو مرتهنًا.
إنّ الأمنَ القوميّ الحقيقيّ يتطلب منا معرِفة عميقةِ بمُختلَف العناصر التي تشكِّلُ القوّةَ الوطنيّة الشاملة، لحمايتِها، والمصادرِ التي تهدِّد قُدُراتِنا، لمواجهتِها.
لذلك، سنبحث في هذا اليوم، في اشكاليات أمننا القومي ومفهومنا لأبعاده الواسعة. وبعدها سنغوص في التفاصيل في طاولات مستديرة وعلى مدى عام كامل، باحثين في البُعْدِ الإقتصادي لأمنِنا القَوميّ، والبُعدِ الإجتماعي، والبُعد الأيديولوجيّ لفِكرة لبنان، والبُعْدِ البيئيّ، والبُعد الإغترابيّ، والبُعد السياسي، والبُعد العسكري.

نحن نعتبر إنّنا تأخرنا كثيرًا في تجسيد هكذا مفهوم. وقد آنَ أوانُ بناء أمننا القومي وفق مُعادلةٍ لبنانية صَرْف، بشجاعة وواقعية واحتراف، لنستعيد مواعيدَ لبنان مع التاريخ".
 

  • شارك الخبر