hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - نجوى بركات

سينما الذاكرة

الثلاثاء ١٥ آذار ٢٠١٥ - 06:52

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

العربي  الجديد

على هامش سؤال طرحه عليّ، كروائية، الصحافي فايز علام، حول ثلاثة أفلام شاهدتها وأحببتها، على أن تأتي الإجابة من دون تحليل وتعليل، وفي سطور قليلة، وجدتني أسمّي أول ثلاثة أفلام خطرت ببالي، لا لأثرها الكبير الذي تركته عليّ، وفي ذاكرتي، بحيث يمكنني وصفها لقطة لقطة، ومشهداً مشهداً، بل خاصة للظرف الذي كنت فيه حين شاهدتها.
الفيلم الأول هو "البوسطجي" (1968) لحسين كمال، عن قصة ليحيى حقي. كان الفصل صيفاً، وكنا مجتمعين في غرفة التلفزيون. أذكر أني لم أكن قد بلغت العاشرة بعد، وأني كنت قد تجاوزت الساعة التي حُددت لنومي، فيما كان شكري سرحان، ساعي البريد في قرية كوم النحل، في أسيوط، يفتح الرسائل على بخار إبريق الشاي، فيقرأها قبل أن يعيد لصقها وتوزيعها على أهالي القرية. قال أبي الذي كان جالساً عند رأسي، والذي كان يدرك جيداً ولعي الكبير بالتلفزيون، إن الساعة تأخرت، وعلى صغار البيت أن يذهبوا حالاً إلى النوم. ولكن، كيف أترك زيزي مصطفى التي أخبرت أمها أنها حامل من الذي تقدّم لها، ورفضه أبوها، وقد أتلف البوسطجي رسالة حبيبها إليها، متسبباً بموتها قتلاً على يد أبيها لمحو عاره؟ وضعتُ الغطاء على رأسي، وهمدتُ كي أوهم أبي أني غفوت. وبقيت أعضّ على خيوط النسيج القطني بنابيّ، حتى أحدثت ثقباً صغيراً وضعت عيني فيه، وتابعت الفيلم حتى نهايته، "سرقة".
الفيلم الثاني هو "ابنة رايان" (1970) لديفيد لين، المقتبس عن رواية إيمّا بوفاري، للكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير، وتدور أحداثه عام 1916، في إحدى القرى الإيرلندية المحافظة. تتزوج سارة رايان من مدرّس القرية، روبرت ميتشوم الذي يكبرها بخمسة عشر عاماً. لكنها، وبعد أن تخيب سريعاً من زوجها، تُغرم بالضابط الإنكليزي الذي جاء ليتولى قيادة الثكنة العسكرية المجاورة. الحب المحرّم ومناظر الطبيعة التي تخلع القلب، وسارة التي تخرج بقميص نوم رقيق، في طقسٍ ينذر بالعاصفة، لعناق حبيبها، وأنا التي أشعر أني شاهدة على ما لا ينبغي لي مشاهدته، في أول خروج لي إلى السينما، وحيدة، أنا ابنة الحادية عشرة على أبعد تقدير. فهي سينما القرية، والكل يعرف الكل، ولا بأس في ذهابي إليها، بعد توسّل وإلحاح طويلين. حتى أصابتني اللوثة، وبات مصروفي كله يذهب، كل صيف، على تذاكر سينما لاكوريدا التي كانت تعرض كل يوم، عند الثالثة تماماً، فيلماً من أحدث الأفلام العالمية التي أنهت جولتها في العاصمة. كانت ابنة رايان تذوب هياماً بالضابط الإنكليزي، وأنا أغرق في مقعدي، فلا تطال قدماي الأرض، فيما تتحرك الشاشة الكبيرة كأنها السماء فوقي، في صالة شبه فارغة. حتى افتضح أمر سارة، وقررت القرية معاقبتها على خيانتها الزوجية، وخيانتها إيرلندا، بإقامتها علاقة مع العدو الإنكليزي. قبضت نسوة القرية عليها، وحلقن لها شعرها في مشهد قاسٍ، لم أحتمل عنفه، فشاهدته خلف أصابعي المبلولة بمياه وجهي...
الثالث هو فيلم أماركورد (1973)، "إني أتذكّر"، للمخرج الإيطالي فيلليني. هذا كان اكتشافاً رائعاً، وبمثابة خروجي إلى العالم، لإحساسي الغريب بأني كنت، كأبطال الفيلم المراهقين، أغادر عالم الطفولة إلى غير رجعة، فيما كانوا هم يكتشفون أولى ارتعاشات أجسادهم المراهقة. في هذا الفيلم الذي شاهدته مع أختي الكبرى وصديقها، في النادي الثقافي العربي، ثمّة ما أخبرني عن نفسي، وما ستكون عليه، بحدسٍ كنت مدركة أنه لن يخطئني. هكذا، شعرت، وأنا غارقة تحت النفناف المتراكم أمامي بخفة على الشاشة، أني جالسة في شجن هادئ كبحيرة، أشاهد مع أبطالي مرور السفينة – العيد - الحياة.
هذا كله جرى ذات هدأة، قبل أن يبدأ، في عام 1975، فيلمُ لبنان الطويل.
 

  • شارك الخبر