hit counter script

مقالات مختارة - إبراهيم غرايبة

الإعلام منتجاً للخواء والسياسة

الجمعة ١٥ آذار ٢٠١٥ - 06:54

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

العربي الجديد

يلاحظ المراقب لعلاقة القادة السياسيين بالإعلام أن السياسة لم تعد إدارة الدول وتسييرها، لكنها السلوك الشخصي والمسرحي أمام وسائل الإعلام. ويساعدنا ميلان كونديرا (رواية الخلود) على فهم إبداعي للمسألة، يقول: كأن البلاد تسيّر نفسها بنفسها، ولم تعد السياسة سوى ابتكار تكرار جمل صغيرة، ستحدد صورة رجل السياسة، وتوجه فهم خطابه، وكذا شعبيته في استطلاعات الرأي، وتحسم من ثم في انتخابه من عدمه.
رجل السياسية تابع للصحافي. لكن، لمن يتبع الصحافيون؟ لمن يؤدون إليهم أجورهم، وهؤلاء هم وكالات الإعلان التي تشتري حيزاً في وسائل الإعلام. انتصرت الصورلوجيا على الأيديولوجيا، في العقود الأخيرة، نصراً تاريخياً، كل الأيدولوجيات منيت بالهزيمة، انكشفت أوهام عقائدها، ولم يعد الناس يأخذونها على محمل الجدّ.
وتمثل استطلاعات الرأي الوسائل الحاسمة في سلطة الصورلوجيا، فالاستطلاعات تشكل الواقع، وصار هذا الواقع المتشكل هو الحقيقة، بل الحقيقة الأكثر ديمقراطية التي لم يعرف لها التاريخ نظيراً من قبل. يقول كونديرا "على الرغم من أنني أعلم أن كل شيء إنساني يلحقه التلف، فإنني لا أستطيع أن أتصور قوة في مقدورها أن تحطم هذه السلطة".
"يمضي الإعلام الإلكتروني، ومنه شبكات التواصل الاجتماعي، بالأفراد والمجتمعات والسياسة والثقافة إلى مرحلة بعيدة غريبة، لم نفهمها بعد، وإن كنا نعيشها. ما الذي سيحدث للعالم عندما يتحول البشر جميعهم إلى إعلاميين؟"
وهكذا، تحولت المآسي وقصص الموت إلى أخبار وتسلية، ليست فظيعة إلا بالنسبة لمن ماتوا والمقربين منهم. الموت في الأخبار الإذاعية يأخذ المعنى نفسه الذي يتخذه في روايات أغاثا كريستي، الكاتبة التي تعد أكبر ساحرة في التاريخ، لأنها عرفت كيف تحول القتل إلى تسلية، ليس فقط قتلاً واحداً، بل مئات جرائم القتل المتسلسلة المرتكبة بقصد إمتاعنا. نسيت المحارق ومعسكرات الإبادة، لكن محارق أغاثا كريستي ستظل ترسل دخانها إلى الأبد، ولن يزعم أنه دخان مأساة إلا شخص بالغ السذاجة.
هل نحن في مأزق؟ فالإنسان كما يقول كونديرا لم يعرف، منذ بداية تاريخه، غير التراجيديا، وهو عاجز عن الخروج من هذا العالم، ولا سبل لإنهاء عهد التراجيديا إلا بالتفاهة، لم يعد الناس يعرفون من تاسعة بيتهوفن سوى المقاطع المصاحبة لإعلان عطر "بيلا". التفاهة علاج جذري للنحافة، يقول كونديرا، فبفضلها تفقد الأشياء تسعين في المائة من دلالتها وتصير خفيفة، وبتخفيف الأجواء سيختفي التعصب، وتصير الحرب مستحيلة.
كيف نستوعب المشهد، أو نحاول إصلاحه؟ ففي التفاهة استقرار وسلام، وفي الحروب والصراعات ثقافة وإبداع، كما يلاحظ كونديرا، ويحرجنا بملاحظته هذه، فالحرب والثقافة قطبا أوروبا، وهذا الانحراف الأوروبي المسمى تاريخاً أنتج الثقافة الرفيعة، ولا سبيل إلى الفصل بينهما، إن زوال أحدهما يعني زوال الآخر، فيختفيان معاً، فخلو أوروبا من الحروب مرتبط، على نحو غريب، بكوننا لم نعرف منذ خمسين سنة شخصاً مثل بيكاسو!
والتناقض، في حدّ ذاته، ينتمي إلى الثقافة الرفيعة. وهذا يذكر بالشباب الذين كانوا ينتمون إلى النازية أو الشيوعية ليس بدافع الرغبة في الإيذاء، ولا بدافع الوصولية. ولكن، بسبب ذكائهم المفرط، لا شيء في الواقع يستنفد مجهوداً فكرياً أكثر من حجاج يتوخى تبرير اللافكر.. كان المثقفون يدخلون، كالعجول، إلى الحزب الشيوعي الذي ينتهي بتصفيتهم جميعاً، وبغبطة وبشكل منهجي.
يفترض أن الحضارة الأوروبية قائمة على العقل. لكن، يمكن القول إن أوروبا حضارة قائمة على العاطفة أيضاً: فهي خلقت نمطاً إنسانياً يسميه كونديرا الإنسان العاطفي، فتنشأ العاطفة بداخلنا في غفلةٍ منا، وغالباً ما يكون ذلك ضد إرادتنا. وبمجرد ما نتعمد الإحساس بها لا تعود العاطفة عاطفة، بل تتحول إلى محاكاة عاطفة، وإلى استعراض لها، وهو ما يعرف عامة بالهستيريا. لهذا، الإنسان العاطفي هو، بعبارة أخرى، ذلك الذي رفع العاطفة إلى مقام القيمة؛ شبيه في الواقع بالإنسان الهستيري.
الإعلام اليوم في سيادته لم يغير السياسة والثقافة فقط، ولم يحول الخواء والتفاهة إلى قيمة عظيمة فقط، لكنه يشكل أرواحنا، وكأنه، كما يقول بودريار، يتغلغل في سلسلة الدي إن إيه، المسؤولة عن تحديد الهوية الإنسانية والسلوك والمهارات وكل شيء، كأنه يعيد ترتيب الجينات وعلاقاتها، ففي الضوء سرّ وسحر يجعل الإنسان، بمجرد تعرضه له، سواء في تلقيه، كمشاهد أو مستهلك أو مقدم أو منتج إنساناً آخر.. صحيح أنه مليء بالخواء والتفاهة، لكنه يمنحنا، أيضاً، قدراً من السعادة والترفيه والتسلية. فلم نعد قادرين على تخيل حياتنا من غير الميديا.
ولكن، يمضي الإعلام الإلكتروني، ومنه شبكات التواصل الاجتماعي، بالأفراد والمجتمعات والسياسة والثقافة إلى مرحلة بعيدة غريبة، لم نفهمها بعد، وإن كنا نعيشها. ما الذي سيحدث للعالم عندما يتحول البشر جميعهم إلى إعلاميين؟
 

  • شارك الخبر