hit counter script

مقالات مختارة - كاتيا يوسف

آشوريو الشرق والمحطّة الأخيرة

الثلاثاء ١٥ آذار ٢٠١٥ - 06:44

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

االعربي الجديد

ما همّ أن يُقتل الآشوريون ويذبحوا. لم تسلم أي طائفة أو قومية في الشّرق من التنكيل. عبارات قد نسمعها تتردّد على ألسنة غالبية من يشهد الجرائم التي ترتكب بحق أقدم شعوب المنطقة، أو بالأحرى ينطق بها كل من يجهل تاريخها. أمّا تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، فعاجز عن التمييز بين مسلم أو مسيحي أو عربي أو أجنبي. هو أشبه بقنبلة نووية، أينما حلّ لا يترك بشراً ولا حجراً، بل ظلاماً وجهلاً.
انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تصوّر أعضاء داعش يدمّرون حضارة آشور، بفخر واعتزاز، وصور لعائلات هربت قسراً من بيوت تمسّكت بها حتى طرق بابها شبح الموت، وأخبار عن مخطوفين وشباب سقطوا دفاعاً عن أهلهم، وعن أرض لجأوا إليها، حين ضربت السيوف أعناقهم، وقتلت منهم مئات في بلاد الرافدين. لم يسلم الآشوريون من محاولات إبادتهم، والتعرّض لهم ولتراثهم وحضارتهم وتاريخهم ولغتهم، على مرّ العصور، بدءاً من زمن البرابرة القديم إلى برابرة اليوم من الداعشيين.
ومع أنّ قوميات وشعوباً كثيرة نسبت ابتكارات الآشوريين وثقافتهم وعلمهم إليها، من خلال تزوير الحقائق، أو حرق المخطوطات والمراجع التي تبرز مآثرهم، إلاّ أنّ التاريخ يشهد أنّ هذا الشعب الذي كافح، أمداً طويلاً، من أجل البقاء في بلاد ما بين النهرين، مهد الحضارة الأولى، وصمد وحده حين سقطت إمبراطورية سومر وآكاد على أيدي البرابرة، كان له الفضل في تحرير لبنان من الاستعمار المصري عام 587 ق. م، وتثبت ذلك نقوش الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني، بالحرف المسماري في نهر الكلب في لبنان. واللافت أنّ الذين وصفهم أحد أعضاء داعش بالوثنيين كانوا أوّل من اعتنقوا الدين المسيحي، ونشروه في أصقاع العالم، وأكثر شعب قدّم للبشرية ما لم تبلغه أي حضارة في تلك الحقبة التاريخية، أو بعدها بمئات السنين. فالإمبراطورية الآشورية أول منظمة سياسية صحيحة في العالم القديم، وهم أوّل من مارس الحرب النفسية سلاحاً يدب الرعب في قلوب أعدائهم، كما يحاول أن يفعل تنظيم داعش، اليوم، في تصويره عمليات القتل. وممّا أعطوه للعالم: جهاز البريد والجيش المجهّز الحديث والمكتبات العامّة وقانون حمورابي وعلم الفلك والتنجيم وتقسيم اليوم إلى 24 ساعة، والدائرة إلى 360 درجة، وبناء القرميد وآلة الزراعة وغيرها الكثير.
وكان للآشوريين فضل نقل الفلسفة الأرسطوطالية، وغيرها من الفلسفات اليونانية، إلى العرب، وتبوأوا مراكز رفيعة في الدولة العباسية، وعلّموا أسيادها الفلسفة والطبيعيات والطب. وبفضلهم، وصلت الأرقام الهندية إلى العرب، على يد الفيلسوف الكبير سوير أسابوخث. كما أن أوّل طبيب عربي، الحارث بن قلادة، تتلمذ على أيدي الآشوريين، وتوفي عام 624. وتذكر كتب التاريخ أنّ الخليفة العباسي المنصور استدعى طبيباً آشورياً، يدعى بجرجيوس، لعلاجه بعد أن عجز أطباؤه عن مداواته، وتأثّر الخليفة ببراعة الطبيب الآشوري، فدعاه إلى اعتناق الإسلام، واعداً إياه بالجنة، بيد أنّ الطبيب اعتذر، وقال: "قد رضيت حيث آبائي في الجنّة، أو في النّار".
قد يتحوّل الشعب الآشوري إلى تحفة أثرية نادرة مهدّدة بالانقراض من الشرق، إن استمرّت أيادي الجهل بالفتك به في إبادة عصرية، يتفرّج عليها العالم، وهي تصادف الذكرى المئوية للمجزرة التقليدية التي ارتكبتها تركيا في عام 1915، وفتكت بما يزيد على نصف مليون آشوري، وما يفوق المليون أرمني.
الدول العظمى تستنكر وتدين وتشجب، في وقت تُهدّد قومية وحضارة من فصيلة بني آدم بالزوال من أرضها الأصلية، بينما نراها تهتز، حين تواجه فصيلة من الحيوانات النادرة الانقراض، وترسل البعثات الطبية والعلمية، وتُقام البحوث ويُسخّر العلماء، وتُضخ الأموال الطائلة في استثمارات، وتقوم الدنيا ولا تقعد.
الآثار الأشورية التي دمّرتها داعش، مزوّرة أم حقيقية، قد تكون المحطّة الأخيرة للقضاء على آخر أثر للآشوريين في المنطقة.
 

  • شارك الخبر