hit counter script

مقالات مختارة - عبّاد يحيى - العربي الجديد

داعش الواقع لا الأفكار

الأحد ١٥ آذار ٢٠١٥ - 09:47

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

"العربي الجديد"

يطغى التعاطي مع أي صراع سياسي أو عسكري، اليوم، على أنه صراع أفكار، بل أفكار حسب، ويبدو نقد أي فكر أو إعادة النظر فيه أو مساءلته شأناً سياسياً، ويبدو أيضاً اتخاذ أي موقف سياسي، في المحصلة، شأناً فكرياً. نقاش الأفكار المواكبة لمتغير سياسي واجتماعي مخاتل، وعادة ما يحول دون إدراك حقيقة ما يجري. وحين تدفع جماعة، أو جهة ما، المقولة الفكرية إلى صدارة المواجهة، فذلك يعني إصراراً مستمراً على إخفاء العناصر الأكثر تأثيراً من مقولاتها الفكرية، وسعياً إلى إرباك المحايدين والمراقبين والمتفرجين، وتعبيراً صريحاً عن إخضاعها الفكر للسياسة، وليس العكس. إن نقاش الأفكار بشأن شيء كداعش يتلبس لبوساً سياسياً بشكل مستمر، ويبدو النقاش الفكري لممارسة سياسية مصلحية خالصة مغالطة مستمرة، لأنه يدفع إلى تبني أفكار، أو رفضها، في واقع عملته المتداولة هي المواقف السياسية، لا الأفكار، وسرعان ما يبادر إلى صرف أو تصريف الأفكار إلى مواقف سياسية، حتى تصبح ذات قيمة في واقع كهذا. بالمنطق الراهن، فإن رفضك أفكار فريق أو جهة يعني رصيداً سياسياً لصالح خصومهم، الذين يسارعون إلى تأكيد أن الصراع فكري بالدرجة الأولى، لكنهم يسحبون نتائجه إلى المستوى السياسي. حين كانت الجماعات المسلحة في سورية تصر على الاختلاف الفكري في ما بينها، وافتراقها عن جماعات أخرى في هوامش ضيقة جداً، كان الفعل الوحيد الممكن لإثبات الناس أنهم يؤمنون بفكر جهةٍ، ويرفضون فكر الجهات الأخرى، هو مبايعتها سياسياً، أو حتى الانخراط في نشاطها المسلح، من دون وجود متسع يسمح بالقناعة بأفكار جهةٍ، مع رفض تحركها السياسي، أو القناعة بالدور السياسي لجهةٍ مع رفض أفكارها. وهذا ما ضخّم سجال الأفكار إلى درجة سمحت للنظام السوري، المستعين بالمليشيات الشيعية وبالنظام الإيراني وحزب الله، أبرز وجوه الإسلام السياسي في العالم خلال العقود الماضية، بالقول إنه يعبر عن التيار العلماني، ويخوض صراعا ضد الرجعيين والتكفيريين! لكل هذا، يبدو الإصرار على النقاش الفكري بشأن حالة كداعش مخاتلا، تماماً مثل النقاش بشأن "الإسلام الصحيح أو الحقيقي" ضمن سياق سياسي. ولذلك، نتعثر، اليوم، بكثيرين يريدون إعادة النظر في مجمل الإسلام، لأن جماعة ترفعه شعاراً وتمارس الجرائم، وهؤلاء لا يختلفون في شيء عمن يدفعهم السلوك السياسي لدول أوروبية إلى إعادة النظر في العلمانية مثلا، وفي أحيان كثيرة، رفضها كأنها خيار ضمن قائمة طعام. إن مضي الأفكار إلى حيز الممارسة السياسية لا يبقيها أفكاراً كما كانت، على الأقل ينحّيها جانباً لأن المتغير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي يغدو أكثر أهمية، وما بقاؤها في واجهة السجال إلا مناورة سياسيةً، المفترض أنها أصبحت اليوم مكشوفة. التفكير في نشأة داعش يوضّح هذا الافتراض، فلو أن لحظة الضعف العسكري وهشاشة بنية النظام ومعارضته في سورية والعراق لم تكن، لما توفرت أسباب حياة داعش المعتاشة في مساحة ضعف الخصوم تلك. هذا لا يعني أن أفكار داعش لم تكن موجودة، بل على العكس، هي موجودة دوماً، ولكن، كأفكار وحسب. ومن هنا، يأتي اقتراح عدم جدوى نقاش الأفكار، لأنها تابعة على عوامل أكثر أهمية، وسهلة الاستثمار سياسيا. حين نقرأ، اليوم، تاريخ الحرب العالمية الأولى، مثلاً، ننشغل بالسياسة والظروف الاقتصادية والاجتماعية. لذلك، لا نستغرب مقتل ملايين البشر في حروبٍ لا تعنيهم بشيء، لكننا نقف مشدوهين حيارى، اليوم، أمام ممارسات جماعة مسلحة، لأننا مدفوعون لمناقشتها في مساحة أفكارٍ، موضوعها مرجعيتنا الدينية والثقافية، لا الشروط السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي جعلت وجودها وبقاءها وتمددها ممكناً. وداعش حين تدمر متحفاً، أو تحرق كتباً، فهي تعيدنا إلى مربع النقاش الفكري المخاتل، وتظل تكسب رصيداً سياسياً مع استعار النقاش الفكري. 

  • شارك الخبر