hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - حلمي الأسمر

يولدون ويدفنون بلا أسماء

الخميس ١٥ كانون الثاني ٢٠١٥ - 06:26

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

العربي الجديد

منذ رأيتها شاحبة الوجه، ساهمة النظرات، لم تفارق صورتها مخيلتي، وشعرت، في أعماقي، أن علي واجباً هائلاً يضغط على أعصابي، لتخليصها وذويها مما هم فيه. هم مواطنون يحملون جواز سفر أردنياً، ولدى كثير منهم دفاتر عائلة، أي أنهم أردنيو التابعية، لكنهم يظهرون فجأة، ويرحلون فجأة، يأتون يوماً أو يومين، في خيام غريبة، يقيمون بيننا، ولا نعلم عنهم شيئاً. قادتني مصادفة إلى مضاربهم، مدفوعا بمحاولة "اكتشاف" هذا التجمع البشري الذي يظهر ويختفي فجأة، وزرتهم مرة أخرى، بدافع آخر هذه المرة، كنت أظن أنهم من "النور"، لكنني اكتشفت أنهم ليسوا كذلك، بل إنهم حتى ليسوا عرباً. إنهم يعيشون في عمق المدينة، لكنهم في الحقيقة على أطرافها، إن لم يكونوا خارجها جداً، مطرودين من "رحمتها" إن كان ثمة رحمة في قلبها!
في المرة الأولى التي زرت فيها "مضاربهم" في ظاهر عمان، (قريباً من ضاحية سحاب)، بصحبة "دليل" يعرفهم جيداً، ويرتبط بعلاقة وثيقة بهم، كانت "وردة" مكشوفة الشعر، وتشكو من أرق مزمن، فهي لا تنام إلا مع أذان الفجر، أما شقيقتها "مونيكا" فقالت إنها تدخن أربع علب من السجائر كل يوم، ولا تأكل إلا القليل من الطعام، ولم يكن والدها "أبو هاني" يعلم أن ابنته تلتهم هذه الكمية من السجائر. قال "شهبور" وهذا هو اسمه، إنها تزوجت قبل سنوات، وتركها زوجها قبل أن تنجب طفلها الأول، وحين أنجبته، جاء أهل زوجها وأخذوه عنوة. ومنذ ذلك الحين، وهي تحلم برؤيته. وبالعودة إلى زوجها، في الزيارة الثانية، كانت "وردة" تضع شالاً يغطي شعرها، وتأتأت بسورة الفاتحة، مستعينة ببعض المساعدة، لإتمام قراءتها، فوجئت بأنها كمن يدخل الإسلام أول مرة، فقد بدأت بأداء الصلاة، للمرة الأولى في حياتها، بفضل إحدى الفتيات التي بدأت تعلمها أركان الإسلام، على الرغم من أنها تجاوزت العشرين عاماً بكثير، وهي أم لطفلين. ليس هناك في الأسرة التي يربو عددها على العشرة أنفار من يجيد القراءة والكتابة. يقوم اقتصادهم على جمع قطع الخردة من حديد ونحاس، وبيعها بثمن زهيد بالكاد يغطي حاجاتهم اليومية من الخبز. بعض من رجالهم وشبابهم نراهم متنقلين في شوارع عمان، يبيعون معاطف الجلد والسجاد وآلات التصوير والنواظير، وثمة مجموعات أخرى من نساء وأطفال، يمارسون التسول، على الرغم من أنه عمل قبيح في عرفهم. إنهم جزء من تجمع بشري تركي، يسمونهم التركمان، جاؤوا إلى الأردن منذ زمن سحيق، عددهم في الأردن يتراوح بين عشرين وثلاثين ألفا، يعيشون في تجمعات تضم عدداً من الأسر، بلا منازل أو عمل أو مدارس، وفي وسع أي "مواطن" متضرر أن يشتكي عليهم، لتأتي جرافات تتحرك بأمر المحافظ، لتقتلع منازلهم وتلقي بهم في .. الشارع! رغم أن الشارع أصلاً موطنهم وباب رزقهم!
في أكثر من منطقة في عمان، تشاهدهم في خيام تشبه الخيام، فهي توليفة غريبة من الخيش والكرتون والبلاستيك، نساؤهم وأولادهم يرتدون ملابس غريبة. وبالطبع ليست لديهم "وحدات صحية"، فهذا بذخ لا يليق بهم، ولا صنابير ماء ولا كهرباء، ولا يذهب أولادهم إلى المدارس، ولا يدخل رجالهم دوائر حكومية، إلا موقوفين أو مطاردين بتهمة الـ "تشرد"!
يعيشون بين القصور والفلل والعمارات الباسقة، في بيئة لا تصلح للبشر، ولا تليق بمجتمع يُعد من أكثر المجتمعات العربية تطوراً وتقدماً، بل إنه أسهم بجهد أبنائه في بناء مجتمعات عربية كثيرة، وصدّر إليها عمالاً مهرة ومعلمين وكفاءات وخبرات في مختلف المجالات، فكيف به "يتسامح" مع بيئة كهذه، لا يتوفر فيها الحد الأدنى من الاشتراطات الإنسانية؟ وكيف يتعايش مع تجمعات بشرية وسط أحيائه الراقية، يعاني أهلها من هدر مذهل في حقوقهم؟
"يعيشون بلا ماء ولا كهرباء ولا مدارس ولا أي نوع من أنواع الحقوق المدنية"
قالت وردة إنها تتوق لبيت دائم ومدارس وماء وشارع معبد، ووثائق أيضاً. سألتها عن الوثائق، فقال والدها إن معظم الأسر تعيش بلا دفاتر عائلة، ويتزوج الأبناء والبنات في سن مبكرة جداً، قد لا تتجاوز سن الخامسة عشرة. لذا لا يوثقون عقودهم، وهذا يتيح للفتى الزوج أن يترك زوجته في أية لحظة، وقد يتزوج بغيرها، ويضطر والدها لتسجيل أبناء ابنته في دفتر عائلته هو، على اعتبار أنهم أولاده، وهذا هو شأن ابنتي "وردة"، أما زوج "مونيكا" أو "منى"، فقد هرب من زوجته، تحت ضغط من والدته. وحين يموت أحد أفراد الأسرة، كيف تدفنونه بلا شهادة ميلاد؟ سألت، فقال لي أبو هاني إنهم "يستعيرون!" دفتر عائلة من أحد افراد الأسرة، ويدفنون الميت باسم آخر.
بمعنى آخر، إنهم يولدون بلا أسماء، ويموتون كذلك، مع أن لكل واحد منهم اسمين، واحداً لاستعمال العائلة والآخر خارجاً، فوردة اسمها الآخر دجلة، ومونيكا تحمل اسم منى، ويبدو أن الأمر مرتبط بأسطورة خاصة شائعة في ثقافتهم. نسبة الأمية في أوساطهم 100%، ولا يعرفون من الدين والدنيا إلا القليل، إنهم يعيشون في تجمعات قذرة، لا تعرف الماء إلا بما ينقلونه من الجيران، بأوعية صغيرة تكاد لا تكفي إلا لصنع الشاي والطعام، فما بالك بالحمام!
إنهم مجموعة من البشر يتنقلون باستمرار في أكثر من 15 تجمعا منتشراً في أنحاء المملكة، وبسبب غياب أي تنظيم أو زعامة محلية يمكن أن تطالب بحقوقهم، أثرتُ قضيتهم في السابق أكثر من مرة، ولم يتغير شيء، وها أنذا أدعو من هذا المنبر، (العربي الجديد)، الحكومة الأردنية ومؤسسات المجتمع المدني في الأردن وخارجه للتحرك لتوطينهم، وبناء البيوت لهم ووقف هذه "المجزرة" الإنسانية، فهم يعيشون بلا ماء ولا كهرباء ولا مدارس ولا أي نوع من أنواع الحقوق المدنية، إنهم تجمع بدائي يعيش على هامش الحضارة، ويتعيّن على الجميع التحرك سريعاً لإنقاذهم، فمن المعيب أن يعيش بيننا، في هذا العصر، أناس ينتمون للقرون الوسطى، أو حتى عصر ما قبل الكتابة!
 

  • شارك الخبر