hit counter script

مقالات مختارة - سمير عطاالله

إبحارٌ في محيط الحروب

الأربعاء ١٥ كانون الثاني ٢٠١٥ - 07:08

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

النهار

منذ 1961 بدأت الحروب تدور حول السعودية تمهيداً للوصول إليها. في البداية هدّد عبد الكريم قاسم (الزعيم الأوحد) بضمّ الكويت بعد اغتيال النظام الملكي في بغداد العام 1958. ومن ثم دخلت القوات المصرية اليمن، تخوض حرباً شديدة الكلفة وبعيدة الآثار. وكان الهدف الواضح الوصول إلى الرياض، لكن السعودية خاضت تلك الحرب من خلف الحدود. إلا أن الحرب الأقسى، كانت تلك التي يشنُّها أحمد سعيد من "صوت العرب": أخي في جيزان، أخي في نجران، أي المناطق المتاخمة لحدود اليمن. ودعوة السعوديين إلى إسقاط الحكم.
في احتلال العراق للكويت العام 1991 وصلت قوات صدام حسين إلى الخفجي، المنطقة المحايدة مع السعودية. وقيل إن صدام سوف يُكمل زحفه نحو السعودية والإمارات. في كل تلك الحروب، كان النظام الملكي في الخليج مستهدَفاً، والأمل في النفط هو الغاية الخفيَّة. وكان غطاء "تحرير فلسطين" جاهزاً. فإذا لم تُحرَّر من جونيه، حُرِّرت من الكويت.
في ذروة الحرب الباردة بين السوفيات والأميركيين، حاول الروس استخدام الإيديولوجيا. اقتربوا من السعودية في ثورة ظُفار العُمانية. وأقاموا "جمهورية شعبية ديموقراطية" في اليمن الجنوبي تُفتتح فيها المؤتمرات باسم لينين، بدل اسم الله. وتمكّنت المملكة من أن تُبقي كل ذلك خارج حدودها. وفي وجه اليسار المهاجِم وصراخ "صوت العرب" على الملَكية والرجعية العربية، أزاح فيصل بن عبدالعزيز لقب "الملك" واستبدله بـ "خادم الحرمين الشريفين"، فهذه في نهاية المطاف أرض مكة والمدينة.
منذ فيصل، كان لكل ملك حرب يخوضها ويُبعدها عن بلاده. وفي هذه الأثناء أيضاً، كانت البلاد تتمتّع بازدهار اقتصادي وعمراني وتعليمي لا حدود له. وخلال أربعة عقود تحوَّلت الرياض من واحة من الطوب الأصفر إلى مدينة من خمسة ملايين بشري. على رأس ذلك المحيط العمراني كان يقف سلمان بن عبدالعزيز.
وعلى عادات العائلة واحترام الشقيق الأصغر للشقيق الأكبر، وقَف الأمير سلمان في ظلّ إخوته الكبار. لكن دوره ومكانته في الحكم كانا واضحَين تماماً. وكذلك مهابته بين الناس، ولذلك، كُلِّف، إلى جانب إمارة الرياض، أمانة سرّ العائلة. هو يُراقب سلوك أفرادها الجُدد، وهو يضبط تصرُّفهم مع الناس، وهو، في أي حال، النموذج، ولذلك، تمّ اختياره.
العلاقة مع الناس، هي سرّ الرجل الأكثر شبَهاً بالملك عبدالعزيز. حوَّل إمارة الرياض إلى مرجع لجميع أنواع المطالب والشكاوى والخدمات. يأتي صاحب الحاجة إلى الإمارة، وهي تذهب عنه إلى الصحة، أو التربية، أو الأشغال، أو أي وزارة أخرى. هي التي تفتح له أبواب الوظيفة والعمل. هي التي تتوسّط له في المنح الدراسية. هي بيتُ الناس.
وكان أمير الرياض يعودَ المرضى بنفسه. ويروي الدكتور أنور الجبرتي، مدير المستشفى التخصصي، أن الأمير كان يتّصل به على هاتفه الخاص، مستفسراً عن صحة مريض، أو مُبدياً ملاحظة على تقصير. ولا يترك ذلك لأحد مساعديه. وكان أول من يحضر إلى مبنى الإمارة، قائداً سيارته بنفسه، لا حرس ولا مواكب. وكان مشهداً روتينياً عادياً أن تدخل إلى مكتبه فتراه يراجع ثلاث سجلات من المراجعات مع ثلاثة من مساعديه. كل مراجعة يجب أن تحمل توقيعه ومسؤوليته.
بلَغ سلمان بن عبدالعزيز الحُكم بعد مسيرة طويلة في العمل على أصوله. وقد كان، في نواح كثيرة، واجهَته في الداخل والخارج. مهابةً وكاريزما في وقت واحد. صارم وطيّب. حاسم ومتسامح. وأعرف من موظفي الإمارة أنه كان إذا غضب على أحدهم، وبَّخه، لكنه لم يكن ينام قبل أن يتّصل به في الليل، مطيّباً خاطره، سائلاً عن عائلته وأولاده. وغالباً ما يُرفق كل ذلك بمكافأة ما.
هذا هو الملك الجديد الذي يخلف رجلاً إصلاحياً ومَلكاً نظر إليه السعوديون كأبٍ ورفيق. وقد أعلن في نعيه لأخيه وسلَفه، أنه سوف يسير على نهج الذين سبقوه، ولكن معه تبدأ أيضاً مرحلة جديدة في الداخل والخارج. فقد اتخذ الملك سلمان الخطوة التي طالما تساءل العالم عن موعدها، وهي انتقال الحكم من أبناء المؤسس إلى أحفاده. وفي اختيار محمد بن نايف رسالتان: الأولى، أن الهاجس الحالي هو الأمن القومي والأخطار المحيقة، والثانية أن المملكة قادرة على تجاوز المفترقات من دون أي عقبات.
ما إن دخل الملك عبدالله المستشفى، حتى امتلأت صحف العالم بالتكهُّنات عن صعوبة الخلافة. وسرَت شائعات كثيرة عن طموحات الجيل الثاني. وكان معظم كتّاب التحليلات يجهلون شخصية الملك الجديد وصلابته ورؤيته للمصلحة الوطنية.
الرجل الذي قاد حركة المحافظة على تراث الأب المؤسّس والمعروف بتديُنه، هو أيضاً الذي أرسل ابنه سلطان رائداً فضائياً، يشارك في أقصى تقدّم العلوم. وأرسل ابنه فيصل إلى أوكسفورد ليعود بالدكتوراه في العلوم السياسية. الأطروحة؟ "إيران والسعودية والصراع المرحلي على الخليج: 1968 – 1971".
مستشار إخوانه الملوك وشريكهم في القرار، أصبح الآن صاحبه. يأتي ذلك فيما تضرب المنطقة برمَّتها رياح عاتية وعواصف هوجاء. الحروب تَقصف بالعراق وسوريا. ومصر لم تتجاوز مرحلة الخوف والقلق، وإيران تزداد اندفاعاً في كل مكان وكل اتجاه، واليمن، كالعادة، في متاهات الفقر والحروب. وفي الداخل تياران: الأول، محافظ يرفض المسّ بالتقاليد، والثاني، إصلاحي. وثمّة تيار ثالث يُعرف بـ"الليبراليين" ويؤيّد تغييرات عميقة في الجوهر.
قبل مسؤولياته ومشاغله الجديدة، كان الملك سلمان يتولّى بنفسه محاورة المتشدّدين والليبراليين على السواء، معتمداً على ثقافة تراثية وسياسية واسعة. وكان "يحمي" الفريقين بعضهما من البعض، ومن الملاحقة. كما كان يجتمع دائماً برؤساء تحرير الصحف، لكي يحاول تخفيف الغلوّ، هنا أو هناك. وتُراوح اهتماماته الثقافية والفكرية بين التاريخ الإسلامي و"بجعات بريّة"، رواية الصين. أي كتاب جديد يجب أن يذهب إلى مكتبته.
وإذا صدَق حدْسي ومعرفتي فإن في قلبه مكانين خاصّين: مصر ولبنان. الأولى، لما تمثّله من تاريخ وعَراقة وضمانة للعرب. ولبنان، لما يمثّله من تعدّد وتنوّع ولبنانيين ساهموا في بناء المملكة والخليج. وسأله الرئيس صائب سلام مرة، لماذا هذا الحب الخاص للبنانيين؟ فقال: "يأتينا الآخرون ليعِظونا، ويأتي اللبناني ليعمل ويجني ويعود إلى بلده ليبني فيلا أكبر من فيلا ابن عمه".
حظيَ لبنان بمحبة خاصة من الملك سعود، والملك فيصل، والملك فهد، ومحبة عارمة من الملك عبدالله. غير أن علاقة الملك سلمان بلبنان أكثر التصاقاً وتشعباً. إنه يرى فيه بلداً مظلوماً على الدوام، ويجب مساندته دوماً. ويرى أن علاقة خاصة قامت بين الرياض وبيروت منذ أن كان أمين الريحاني يسافر على الجمَل لكي يصل إلى "قصر الحكم" أيام الملك عبدالعزيز. وفي القصر كان الريحاني يرى مستشاراً لبنانياً للملك هو فؤاد حمزة، أو المؤتمَن الآخر، الحاج حسين العويني. حضر لبنان بكل طوائفه في قصر الحكم.
لم يتغيّر النهج في الماضي لكن الظروف السياسية هي التي تحكم الرؤية. وكما أن لكل رئيس جديد إدارة جديدة، لا بد أن تكون للملك إدارته. وأول قرار إداري مهمّ لم يكن فقط تعيين الأمير محمد بن نايف ولياً لوليّ العهد، بل أيضاً محمد بن سلمان وزيراً للدفاع، أي أن أهم وزارتين أصبحتا في يد الجيل الثاني. غير أن الملك سارَع إلى تطمين الأسرة الدولية وأسواق النفط المضطربة عندما أعلن أن وزير النفط محمد النعيمي باقٍ في منصبه. ومعروف أن وكيل الوزارة منذ ربع قرن هو الأمير عبدالعزيز بن سلمان، أحد أبرز خبراء النفط العرب. بالطبع هناك حقائب أخرى من الطبيعي أن تتبدّل. وقد يكون تعيين محمد بن نايف ومحمد بن سلمان إيذاناً بتعيينات عدة من صفوف الجيل الثاني. كما من الطبيعي أن يضمّ إلى المكتب الملَكي مساعديه وأمناء سرّه.
تعرّف الملك سلمان في ولاية العهد عن قُرب شديد على عدد ومدى الأخطار والتحدّيات من مغرب العالم العربي إلى مشرقه. ومنذ زمن يعرف عن قُرب التحدّيات في قلب الخليج وضمن مجلس التعاون. لكن هذا قدَر الدول الكبرى في العالم العربي. وقد كان أقرب الناس إلى الملك فهد عندما أبحر في حرب الكويت، وكان إلى جانب الملك فيصل عندما واجه العواصف الرملية الهابّة من اليمن. وكان إلى جانب الملك عبدالله عندما هبّت الرياح من كل مكان. تَعوّد التحدّيات على طريق المُلك، لكنها اليوم أكبر حجماً وأكثر قرباً.
 

  • شارك الخبر