hit counter script

مقالات مختارة - عبد المنعم سعيد

خواطر أعياد الميلاد الأميركية

الأربعاء ١٥ كانون الأول ٢٠١٤ - 06:51

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

الشرق الاوسط

انتهى فصل الخريف الدراسي ومعه توقف التدريس ولقاء الطلاب، وحالت الظروف دون العودة إلى القاهرة، ولم يكن هناك بد من قضاء إجازة أعياد الميلاد في مدينة «والثام» الصغيرة بجوار بوسطن، والممتدة حتى الأسبوع الأول من يناير (كانون الثاني). كان التدريس في جامعة برانديز ممتعا، ومع ازدحام ولاية ماساتشوستس بالجامعات العظمى، والرحلات لإلقاء المحاضرات في شيكاغو وفيلادلفيا ونيويورك وواشنطن العاصمة وآن آربر في ولاية ميشيغان، حيث الطلب شديد على معرفة الشرق الأوسط عامة ومصر خاصة؛ فإن الأمكنة بعد فترة تفقد دهشتها، ويصبح الزمان تكرارا لما فات، وباختصار فإن ما تعرفه عن الولايات المتحدة إما أنه يبدو أكثر مما ينبغي؛ أو على العكس يجري اكتشاف جهل عميق.
جاءت الفرصة مع إجازة ليست قصيرة، فترة ممتدة بدأت منذ فترة مع «عيد الشكر» في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) عندما بدأت البيوت الأميركية في الإضاءة بشكل غير تقليدي. كثير منها كثيف يحكي قصة المسيح عليه السلام، والبعض الآخر فيه كم كبير من البهجة وكفى. قادتني زوجتي إلى الأسواق التي لاحظت فيها ما عرفته منذ زمن، أن أميركا في النهاية أشبه بسفينة نوح، حيث تتجمع الشعوب والأمم والألوان. ولكن أمرا اخترق عيني فجأة وهو أنه لا يوجد شيء في كل هذه الأسواق الممتدة ليس عليه كتابة «صنع في الصين». قليل هنا أو هناك من صناعة بلدان أخرى، كلها نامية، وحتى مصر احتفظت بنصيب من بعض المنسوجات، ولكن الصين توجد في كل مكان، وعلى كل منتج وبضاعة وسلعة. تذكرت أن الشوارع كلها لا يوجد فيها عربات صينية، وإنما توجد فيها عربات يابانية وكورية؛ وفجأة ظهر أن كل بضاعة أعياد الميلاد مصنوعة في مكان ما من آسيا، تماما كما كان الحال مع أقنعة وملابس «الهلوين» الذي هو عيد للأطفال. لم أجد ذلك الندم الذي ساد في القاهرة عندما تبين أن الصين برعت في صناعة «فوانيس رمضان». تواردت على خواطري البنوك التي دخلتها، والمواني والمطارات التي مررت بها، والمؤسسات التي دخلت عليها، وفي كل منها كان الغالب صينيا في صناعته، مع بعض المنافسة من اليابان وأحيانا الهند. وصل الأمر إلى منتجات شركة «آبل» التي تصنع في الصين وترسل إلى الولايات الأميركية مباشرة للبيع.
هنا جاء السؤال، إذا كان الصينيون وأهل آسيا يصنعون كل شيء تشاهده في أميركا فماذا يفعل الأميركيون، ومن أين لهم بناتج محلي إجمالي يصل إلى 16 تريليون دولار؟. بالصدفة أيضا أعلنت الموازنة الأميركية للعام القادم فكانت تريليونا ومائة مليار دولار؛ وفي الأسواق كان الأميركيون ينفقون ببذخ؛ وقيل إن حجم الإنفاق في شهر ديسمبر (كانون الأول) يماثل إنفاق الأسرة الأميركية طوال العام، وكل ذلك على سلع صينية. الواضح أن تقسيما ما للعمل بدأ في التشكل لدى الأميركيين: العالم كله ينتج كل الاحتياجات الإنسانية المعروفة مع الثورات الصناعية الأولى والثانية وحتى الثالثة؛ أما الولايات المتحدة فإنها سوف تتخصص في ثورة صناعية رابعة قوامها أنواع من التكنولوجيات التي تكسر عقد حاكمة في العالم. انظر إلى مجال الطاقة الذي كانت وما زالت تحكمه عوامل «الندرة» بمعنى أن هناك طلبا عالميا متزايدا عليها، وسوف يتزايد مع كل دولة تكسر حاجز التخلف وتبدأ في التقدم. فما فعلته الصين والهند في الطلب على النفط جعل سعره يصل إلى 115 دولارا للبرميل؛ وكلتاهما لا يزال أمامها طريق طويل لا يقل إطلاقا عن مليار ونصف مليار من البشر. أميركا دخلت إلى «الندرة» بتكنولوجيا لتحقيق الفائض اسمها «فراك» لاستخلاص النفط من الصخور. هناك قول أميركي شائع أنه «لا يمكنك استخلاص الدم من الصخر»؛ ويبدو أنهم وجدوا النفط أكثر سهولة من الدم. لكن المعجزة الأكبر جرت في تطورين مهمين دخلا دور التطبيق؛ الطاقة الشمسية التي انخفضت تكلفة إنتاجها بنسبة 80 في المائة خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، والآخر إنتاج تكنولوجيا «مركبة» تستطيع السيارة بمقتضاها أن تسير بالكهرباء والنفط معا. سيارتي من هذا النوع، ولأن النوع صار هو الغالبية فإن قفزة جرت في بيئة بوسطن كلها فلم يعد هناك تلوث.
الفضاء صار أيضا مجالا أميركيا خالصا، فرغم أن أوروبا حاولت من قبل إنتاج طائرة سريعة «الكونكورد»، وطائرات تجارية «إير باص»، إلا أن الأولى أفلست، والثانية تجاهد لكي تبقى في السوق؛ والنتيجة أن الغالبية الساحقة من شركات الطيران في العالم باتت تعتمد على صناعة الطيران الأميركية. وبالطبع فإن معظم دول العالم الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا والصين والهند وروسيا وغيرها بات لها أقمار صناعية تسير في مدارات حول الكرة الأرضية، ولكن أميركا وحدها هي التي لها شبكات متكاملة من الأقمار التي تدير عمليات الاتصال، ورصد الطقس، ومتابعة حركات الطيران والسفن، وتقلبات الأحوال المناخية في البحار والمحيطات. وبعد ذلك فإن أميركا تنفرد وحدها بعمليات الاستكشاف للفضاء السحيق، ونتائج ذلك تكنولوجيًا وعلميًا قصة أخرى.
ولكن أميركا تشكل ثروتها العظمى من الخدمات وبالذات تلك التي ترتبط بالتطور العلمي والتكنولوجي والمعرفة في عمومها. بالصدفة كنت أقرأ ضمن ما أقرأ كتاب «المخترعون» أو Innovators أو المبتكرون، وفيه تتبع التاريخ الطويل الذي قطعته البشرية منذ القرن الثامن عشر حتى وصلت إلى الاختراع الذي غير العصر: «الكومبيوتر». هذا التأريخ للعلم، والمعرفة الدقيقة للتراكم العالمي للمعرفة هي ما يجيده الأميركيون ويستخدمونه في مجالات البنوك والطب والجامعات والاتصالات والمواصلات ومراكز البحث ومعامل التحليل. التكامل بين ذلك كله هو حرفة ومهنة أميركية صميمة، وكل منها يخلق له سوقا قد تكون قريبا في شكل «مول»، أو مدينة علمية، أو منتجع للاستشفاء، ولكنه في كل الأحوال فيه صناعة وتجارة وخدمات، وليس مهما بعد ذلك إذا كانت السلع فيه صينية، فما جاء بها إلى السوق أكثر أهمية منها. هذا «الكوكتيل» من المعرفة المستمدة من تاريخ العالم هو ما يجعل من أميركا دولة غنية وقوية، وإلى جانب عملتها لا توجد عملة عالمية أخرى. مثل ذلك أو بعض منه يمكن أن يحدث لدينا، فرغم أن مساحة العالم العربي وعدد سكانه يماثل تقريبا ذلك بالنسبة للولايات المتحدة فإن ناتجنا المحلي الإجمالي نحو تريليون و300 مليار دولار، مثل الهند تقريبا، أو أكثر قليلا من 8 في المائة من الناتج المحلي الأميركي. قريبا سوف تنتهي أعياد الميلاد، وبعدها فقد تحسن العودة إلى الشرق الأوسط مرة أخرى.
 

  • شارك الخبر