hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - نجوى بركات

وائل أبو فاعور، الصراحة القاتلة

الأربعاء ١٥ تشرين الثاني ٢٠١٤ - 06:56

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

العربي الجديد

ذكّرني وزير الصحة اللبناني، وائل أبو فاعور، في مواقفه الأخيرة، بأبطال الأفلام الذين، لنزاهتهم وعدم قدرتهم على تحمّل فكرة أن ينفد مجرمٌ من القصاص، ويستمرّ بجرائمه ليقينه بأن أحدًا لن يجرؤ على معاقبته، يقرّرون القيام بمكافحة عصابات المافيا، مهما كان الثمن مرتفعا عليهم. ولا أقول ذلك ساخرةً أو هازئةً، بل لأن ندرة تصرّفه الأخير، تجعلني لا أجد له مرادفا إلا في السينما، أي في الخيال. عقد أبو فاعور مؤتمرا صحافيا – زلزالا، أعلن فيه: "تبيّن في الكشف العلمي الصحّي أن لقمة اللبناني المغمّسة بالعرق، مغمّسة كذلك بالأمراض والميكروبات"، وأضاف "الحملة شملت ألفاً وخمس مؤسسات في كل المناطق اللبنانية (...)، توزعت بين أفران ومطاعم وتعاونيات وملاحم ومحال حلويات وآبار إرتوازية وينابيع (...)، فقد شملت الفحوصات اللحوم على أنواعها والخبز والعجين والحلويات من قشطة وكريما"...
بصراحته القاتلة، أعلن الوزير الشاب حربا أقامت الدنيا، فأدلى كلٌ بدلوه، شجب من شجب، وندّد من ندّد، وهناك من اتهمه بالتشهير، ووصل الأمر بوزير سابق إلى النزول إلى إحدى المؤسسات المشار إليها، ليأكل "القشطة" موضع الاتّهام، ردّاً مباشراً على "افتراءات" أبو فاعور.
وعدم مراعاة المؤسّسات المذكورة في قائمة أبو فاعور الشروط الصحّية لا يعني ارتكابها مخالفة بسيطة، أو إهمالاً يمكن المرور عليه مرور الكرام، إذ يتعلّق الأمر بأطعمة ومواد تشكّل أساس غذاء اللبناني، إذا ما كان بعد يصحّ فيها استخدامُ كلمة غذاء. فنحن الذين، مستميتين، نتغنّى، شرقاً وغرباً، وكيفما يمّمنا، بثراء مطبخنا وتنوّعه، بعد أن خسرنا كل ما كان يصنع تفوّقنا، من الإخضرار، إلى وفرة المياه، إلى زرقة السماء والبحر، إلى رغد عيشنا وتعايشنا النموذجي، إلى انفتاح أفكارنا ومستوانا التعليمي وإتقاننا اللغات وحرية تعبيرنا وتحرّر نسائنا وقوة اقتصادنا... لم يعد يمكننا، اليوم، سوى التغنّي بتنوّع سمومنا، وفسادنا، داعين من يريد الانتحار إلى السياحة في مناطقنا، زيارة مطاعمنا، وشراء منتجاتنا...
وقد يقول قائل: لا تأكلوا في المطاعم، فهذا من باب الكماليات، وأنتم تعيشون أزمة اقتصادية، وفي هذا وجهة نظر. وقد يضيف آخر: وانسوا اللحوم فهي تسبّب السرطانات، وأمراضا أخرى ليست أقل فتكا. وقد يعلّق ثالث، معترضاً: لا بل اعتبروا أن ما تأكلونه من لحوم تُذبح في مسلخ هو مصنع لتصدير الجراثيم والميكروبات، أو من خضار ترويها مياه التصريف الوسخة، ذو منافع أكيدة تكسبكم وأطفالكم المناعة. والدليل، أننا لم نسمع أبداً بموت الآلاف بوباء التسمّم الغذائي، في حين أن آثار "البراز" التي وجدت في بعض المأكولات التي وضعها أبو فاعور على لائحته السوداء تجعل مقولة "أكل الخراء" واقعاً بعد أن كانت مجازاً، وهو ما لم يتوفّر بسهولة لسواكم...
سألتني صحافية فرنسية زارت بيروت أخيراً، عن سرّ حيوية لبنان الثقافية، على الرغم من كل ما جرى ويجري. غصصتُ بلقمتي، وكنا في موعد غداء، ولم يكن الوزير، لحسن الحظ، قد ألقى قنبلته. صفنتُ جيداً، علّي أرى ما كانت تراه، أو بعضه. وحين لم أجد، قلت لها إنها ربما حيوية من لا يتوقف عن الاحتضار، يطلَق عليه الرصاص، فيقع ثم يقوم، يُخنق، فيسقط ثم ينهض، يُفقّر ويُقهر ويُذلّ ويُهان، فينحني ثم يعود فينتصب.
لم يعجبها ردّي، فأصرّت وأرفقت إصرارها بالأمثلة والحجج والبراهين، فصمتُّ. لا بأس في أن تراه كما تراه، قلتُ في سرّي. ثم انكفأتُ. ثم فكّرتُ: لبنان، ذاك الفساد مصرّفا في جميع الأزمنة والأوزان، واللبناني، ذاك الميت الذي لا يني يموت. أنّى لها أن تفهم؟ هل أخبرها، مثلاً، أنه الآن، لشدة حيويته، صار اللبناني يأكل "الكاكا" أيضا، وأن موضوع الساعة بات: أتراه سيهضمه؟
سيفعل! أراهن أنه سيفعل.
 

  • شارك الخبر