hit counter script

مقالات مختارة - سمير عطاالله

حديقة الإبريز بين البسطة التحتا وباريز

الأربعاء ١٥ تشرين الأول ٢٠١٤ - 06:36

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

النهار

"مذكرات"(■) صلاح ستيتية مدخل إلى عالم من المزدوجات: شاعر وأديب، سفير ومعارض، عاشق لبيروت ومولَّه بباريس، عروبي وفرنكوفوني. المجموع، بحر من الثقافات، لا يضيرها أو يقلّل منها، رداء النرجس الذي لا يُفارقه، على مدى 611 صفحة من الحكايات والخواطر والحميميات والنزعة الروائية وغريزة النقد.
حديقة أفكار وأخبار. رجل يُولد في البسطة التحتا ويُرسَل إلى مدرسة السيدة لويز فيغمان ثم السان جوزف. الأب، محمود ستيتية، زوجته رئيفة السردوك، يعقد في منزله كل مساء ندوة للشعر العربي، أما الابن فيؤسّس "الأوريان ليتيرير"، يوم كان مبيع "الأوريان" يُعادل مبيع جرائد بيروت العربية، ويوم كانت افتتاحيات جورج نقاش هي حديث البلد. مَن غير جورج نقاش يمكن أن يكتب منتقداً كَثرة التصريحات التي يُدلي بها الوزير المفوض في لندن، وسيم الديبلوماسيين كميل شمعون تحت عنوان مثل هذا:
.Faites taire Monsieur Chamoun
كانت بيروت يومها تتخيّل أنها باريس أخرى على المتوسط، وتحمل شوارعها أسماء مثل فوش وكليمنصو وويغان و"سوق الفرنج"! وفيها صحيفتان صباحيتان بالفرنسية و"اللوسوار" في المساء، تحمل افتتاحيات كسروان لبَكي في تأنيب الخلّل وتصحيح الشطط. لكن "الأوريان" و"اللوجور" و"اللوسوار" و"الريفو" لم تكن تصل إلى أكشاك البسطة، الفوقا أو التحتا، فها هنا مُوئل العروبة ومجالس السخرية من الـ"شيه نو آ باري"، وهنا إهانة أن تُخاطب الرجل بلَقب "مسيو"، وهنا يضم الترام حافلتين، واحدة للسيدات وأخرى للرجال والقبضايات وشوارب الرجولة.
من هذا العالم نزل صلاح ستيتية إلى الـ"أوريان" واللغة الفرنسية، ولم يعد... تملّكَته وملَكَها. وشعَر أنه ضاع بين هواه الأدبي وهويّته القومية. وعندما صارت سياسات فرنسا تصطدم بمشاعره، صار يشعر بالحيرة أو الخجل، كما في أيام السويس أو حرب الجزائر، لكنه سوف يختفي قليلاً ولن يُغادر الفرنسية. لقد أفسده بودلير وفاليري ورامبو. لن يتركهم إلى أحد. ولا من أجل أحد.
هذا جيل صلاح ستيتية ومدينته في الخمسينات. ذوو الأسماء الفرنسية الكبرى يأتون إلى بيروت كأنهم يحجّون إلى مقام فكري. أندريه جيد يُحاضر في سينما روكسي، ساحة البرج، ليقول للحاضرين إن الشعوب الصغيرة تقيم المعجزات. والمقصود هنا إقامة لبنان، الذي كان يكتب افتتاحياته جورج نقاش ومسرحياته جورج شحادة ونقدِه الأدبي صلاح ستيتية.
كان مقرراً أن يخلف شحادة في الشعر، فؤاد غبريال نفاع، وأن يخلف صلاح ستيتية في النقد هاني أبي صالح. كلاهما قُتل، تخبرُنا "المذكرات" بداية الحرب. ينسى المدوِّن ركناً آخر من أركان الصحافة الفرنكوفونية، إدوار صعب، رئيس تحرير الـ"أوريان – لو جور" ومراسل "الموند". نعَتْه "التايم" يومَها في سجلّ الشرف.
أودت الحرب بأشياء وأنفس كثيرة، ومحت صورة بيروت، وختمت عصر التفوّق الفرنكوفوني. وقبيل اشتعالها أصدر الصحافي البارع فواز ناجية مجلة "مونداي مورننغ"، فصارت هي صورة المجتمع وليس "الريفو"، التي لم يكن قد بقي لها سوى مقالات رينه عجوري وألين لحود. انحسرت بيروت الفرنكوفونية نحو شرقها المتراجع، فيما راح غربها يغلي بخطاب العروبة. والظواهر الثقافية الأجنبية التي كانت عناوينها أفلام آلان رينه ويسار جان بول سارتر وروايات ألبير كامو، صار عنوان حداثتها مجلة "شعر" ومعها تي. أس. إيليوت وعزرا باوند. وداعاً بول إيلوار. وداعاً سيلين ودو مونترلان. لن يبقى لكم سوى مرثيات أنسي الحاج ومذكّرات صلاح ستيتية. حتى أسماء دُور السينما تغيّرت: من "الريفولي" و"الغومون بالاس"، إلى "إديسون". وأيضاً أسماء المقاهي: من "اللاروندا" إلى "الهورس شو".
بعد صراع طويل بين الفريقين، انتقلت بيروت من قطاع اليسوعية إلى قطاع الجامعة الأميركية. حمل صلاح ستيتية حقيبته وسافر إلى باريس سفيراً لدى الأونيسكو، قريباً من لغته ومسارحه وحدائق شعره، ومن غاليري الأسماء. بحور من الأسماء، يلتقيها الشاعر في المكتبات أو الشوارع أو المصادفات، ثم يضمّها إلى هذه المذكرات التي تشبه غابة كثيفة من الأسماء المرصّعة. أسماء مضيئة مثل زينة للعائدين من الحج. أسماء جديرة دوَّنها في مفكرة ذات ذاكرة غرَّافة تحمل الرمل والماء والحصى. مذكرات آسرة وحافلة لكنها لا تترك، أزهار النيلوفر تخفي أزهار النرجس.
وضع صلاح ستيتية لمذكراته عنواناً هو L'extravagance. لا أعرف ماذا يقصد: التهوّر؟ الغلوّ؟ الإسراف؟ لا أعرف. سألت الشاعر عيسى مخلوف فقال إنه اتفق مع المؤلّف على ترجمتها "حفلة جنون". لا أعتقد. لا أعرف. فالبَسْطاوي الحريص، المحافظ، لا يُفارق صلاح ستيتية، حتى وهو يحاور والدته حول الموت وما بعده، حول الشكّ واليقين. وإذ تطرح رئيفة ستيتية عليه السؤال، يتأمل امرأة واقفة على المشارف الأخرى، ولا يدري ما يقول: الأمل أم اللاشيء؟ يختار جواباً شاعرياً ومُبهماً. لا يُرضي ولا يُقلق.
في حياتها وفي موتها تترك رئيفة ستيتية الطابع السحري على حياته. يتحوّل الشاعر إلى روائي وهو يصف زيارته الأخيرة لها. وإذ يقبِّل جبينها ويعود إلى منزله في البسطة الفوقا تتصل به شقيقته بعد 20 دقيقة: صلاح، لا أدري ماذا حدَث لأمي. إنها لا تجيب. وجدها لا تزال مفتوحة العينين، ثم أُغمضتا.
"تلميذٌ، نعلي الرياح" يقول الطالب العشريني المتجوّل في باريس بلا تعب: "كان سارتر يومها هو السيد، وطالما كنت أراه في "الدوماغو" يتحدث بلا انقطاع، تتدلّى من شفته السفلى سيجارة لا تنطفئ". وكان جميع مَن حوله يرتدون الثياب السوداء: "الوجودية في حِداد دائم". في كل هذه الكثافة الغزيرة من الأسماء والأحداث، ثمّة ما لا تقرأه أيضاً في سطور صلاح ستيتية. في هذا الغمْر والفيْض من الفرنكوفونيات، يرِد اسم أمين معلوف مرة واحدة. المناسبة: انتخابه عضواً في الأكاديمية و"هو روائي ومواطن لي". هل هذا كل شيء؟ "وقد سرّني ذلك". أي سرّ المؤلف ليس حدثاً أن يفوز لبناني بجائزة غونكور ولا أن يحتلّ كرسيّاً في الأكاديمية. "روائي لبناني"، أما هو، صلاح ستيتية، فإنه ضحية العنصرية الفرنسية التي تمنعه من دخول الأكاديمية.
يستذكر ما قاله له رئيس الأكاديمية، بيار مسْمير، عندما ذهب إليه يطلب مقعداً: "آه، أنتم الشعراء"، حقاً أنتم الشعراء. ولكن شكراً في أي حال، على هذا النثر المطرّز والحديقة الوافرة. الحدائق الغلب، قالت العرب في وصف التنوّع الخلاب. وهي ليست حديقة أدبية أو فكرية فقط. فالسياسة في كل صفحة تالية. واللبناني الحائر في كل سطر، هو ضد وصول بشير الجميل إلى الرئاسة، لكن بيار الجميل رجل صلب من خشب الأرز. وهو مع فلسطين بلا حساب لكنه ضد ما فعله الفلسطينيون في الجنوب وبيروت. وإذ يحزن لخروج ياسر عرفات من بيروت إلى تونس، لا يخفي النزعة البيروتية إلى التشفّي ممن حوَّلوا قبضايات العاصمة تَبعيّين، ثمّة مرارة في نفس كل بيروتي، "بعْكوراً كان أو دفتراً" أن يرى نفسه يُزاح إلى الصف الثاني في أكفان الجامع العمري، والصف الثالث في حواريات الباشورة وتِلاوات الذِكر الحكيم. جيل برمّته عاش في عالَمين، عروبة البسطة وغواية "جادّة الفرنسيين". عمر بن أبي ربيعة ورامبو. عندما اكتشف صلاح ستيتية رولان بارت كان أهل البسطة يهلّلون لرباعيات الخيّام وسواحِر بيرم التونسي. بهذا المعنى، وفي هذا الإطار، كان خوارج، أو مارقاً زنديقاً، يحفظ أغاني شارل ترينيه ويدمَع لأغاني بياف.
إيشِبْنا؟ نداءان كانا يتنافسان على شبيبة الخمسينات. اللغة الأم ولغة المفاخرة. القومية الحارّة الدماء والعالمية المنفتحة على عالم جديد تُقلقه الصدور الضيّقة ومآسي الحروب. وهكذا صلاح ستيتية عقوده الزاخرة ما بين عالمين وهويتين. أو بالأحرى، هوية لا خيار فيها وهوية لا شَبَع من آفاقها.
 

  • شارك الخبر