hit counter script

مقالات مختارة - جوى بركات

تفـّاح بشـرّي، تفـّاح لبنان

الثلاثاء ١٥ تشرين الأول ٢٠١٤ - 06:31

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

العربي الجديد

في مثل هذا الوقت من العام، تكون كل أشجار لبنان قد أنزلت حمولتها من التفّاح، وتكون الفاكهة الحمراء والصفراء قد بدأت رحلتها إلى الوجهة البعيدة التي قرّرها لها التجّار.

كنت، حينما ألمح أولى الشاحنات المحمّلة بـ"السَحاحير"، أي الصناديق الخشبية ثم البلاستيكية لاحقاً، تعبر حيّناً في "الحارة التحتا" في بشرّي، ثم بقية الأحياء والحارات، أنتبه فجأة إلى أننا أصبحنا في منتصف أيلول، موعد بدء قطاف التفّاح في الأماكن التي كنتُ، صغيرةً، أسمع أسماءها وأجهل جلّ مواقعها، مثل بقوفا، وبنحلي، وشحيا، وعيشانا، وبعزكتا، وعربة التوتة، والحرزمانة، والعقبة، ومار مطانيوس، وسيدة الدر، والعربيط، الخ.

كانت ثمة كآبة في انتهاء الصيف، في نزولنا من أعالي جبالنا إلى العاصمة، للالتحاق بمدارسنا، وفي مغادرة من لن نلتقيهم في المدينة، وإن كانوا يقيمون قريباً من أماكن سكننا، لأن هؤلاء كانوا رفقة الصيف لا تصحّ رؤيتهم شتاءً أو ربيعاً، رفاق فرحنا، لا "رفاق ندمنا"، الذين نتقاسم وإياهم حفلات ما بعد الظهيرة، والمشاوير المسائية، وحضور الأفلام التي تتجدّد يومياً بعد أن أنهت جولتها الطويلة في العاصمة، في سينما "لاكوريدا"، حيث تُختبر في عتمتها الدافئة، أولى الارتعاشات.

كانت بشرّي الجميلة تتشّح هي، أيضاً، بالكآبة، بعد أن يغادرها المصطافون القادمون إليها من مدن الساحل القريبة، أو من البلدان العربية، أو حتى من أهاليها الذين هجروها "ليتمدّنوا"، فيبدأ أخضرُها بالذبول، ضاجّاً بسيمفونية موجعة من تدرّجات الأصفر والبرتقالي والترابيّ، تنتشر في الحقول المنحدرة سلالم حتى وادي قاديشا السحيق. وحين تنزل عليها "الغطيْطة"(الضباب) لتلفّها، مخفيةَ الأرض والسماء، تتحوّل إلى بقعة معلّقة في الفضاء، نقطة ضائعة في اللامكان، فيقبع أهلها في زواياهم مترقّبين، سعيدين بهذا الأبيض الذي يسرق الألوان كافة لحظات، ليغدقها على تفاحهم، و"يلوَّحه" بعصارة النكهة، برحيق اللون.

كان قطاف التفّاح يحوّل بشرّي، فجأة، من صرصار يمرح كسلان لشهرين كاملين، إلى نملة دؤوبة، تستعجل الانتهاء من عملها، قبل أن يفاجئها الشتاء، فكان يجعلنا نشعر، نحن أبناء الفلاحين الذين باع أهاليهم أرضَهم لشراء شقة في ضواحي بيروت، أننا زوّار طفيليون، لا مواسم نقطفها، ولا مؤن نعدّها، ولا احتياطات نأخذها، فيما الثلج الغدّار قابع خلف الجبال، وقد باشر بإرسال أولى طلائعه إلى أعلى القمم.

تبللنا الشتوة الأولى، وتنفجر رائحة الأرض والزبل والتراب، فنكفكف أطرافنا العارية إلى داخل الرداء، والحذاء، خوفاً من البلل. تضجّ المياه في السواقي المقيمة بجوار البيوت، ونستغرب كيف أن المواقد تبدأ بالسعال باكراً في بيوت أهل القرية، وكيف أنهم لم يطوّعوا البرد، ولم يستميلوه، كما نفعل نحن أبناء الساحل.

تنهال علينا هدايا الوداع من كل حدب وصوب، تفاحاً أحمر وأصفر، كبيراً وصغيراً، طازجاً ونافقاً، فنشربه عصيراً، أو نمضغه مقضوماً، أو نحفظه قطع كومبوت في الماء السكّرية، أو نحوّله إلى مربّى، أو نأكله مطبوخاً، أو نصنع منه فطائر محلاة. تفاح نعربه ونصرّفه في جميع الأوزان، حتى أننا نحتفظ لجيراننا في بيروت بحصتهم من هدايانا، وربما حفظنا منه في البرّادات العامة، فاكهة للشتاء.

والتفاح في قريتنا كان مفخرة تقارع، ربما، ما يمثله، بالنسبة إلينا، ابنُها العالميّ، جبران خليل جبران، فهو من تفاح لبنان الذي يسافر عنّا، ويجلس على أكبر الموائد وأفخرها، يبيّض وجهنا، ويجلب إلى جيبنا مالاً كسبناه بعرق الجبين. شجرته خيّرة، إن أعطيتَها أعطتك، وأغدقت عليك، وكفتك الجوع والبرد وضرورة الذهاب بعيداً، بحثاً عن الرزق.

واليوم، وقد انتهى موسم القطاف في جبالنا، ينسحب المزارعون عائدين إلى شتائهم محبطين، فيما ينام تفاح لبنان الجميل، التفاح الباسم الأمين، في أحضان الأرض، وفي ضمائر أصحابه، مهترئاً، كحال بلاده الغارقة في الكساد.
 

  • شارك الخبر