hit counter script

أخبار محليّة

دريان في رسالة السنة الهجرية: مشروعنا الدولة ونشهد مساعي حثيثة لتقويضها

الجمعة ١٥ تشرين الأول ٢٠١٤ - 10:40

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

وجه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان رسالة السنة الهجرية الجديدة، الآتي نصها:

"الحمد لله النافذ أمره، الدائم إحسانه، الواجب حمده وشكره، تبارك اسمه، وجل ذكره، أحمده تعالى بما هو أهل من الحمد، وأثني عليه ونستغفره من جميع الذنوب ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في محكم كتابه العزيز: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون)، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه، الذي أوذي في الله فصبر، وهاجر في سبيل الله فظفر وانتصر، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الذين هاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون.

أما بعد: أيها المسلمون أيها اللبنانيون: ذكرى الهجرة النبوية هي ذكرى عزيزة على قلب كل مسلم ومسلمة، إنها ذكرى الإصرار على اتباع الحق والدعوة إلى نهج الهدى والصواب، فقد قضى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه زهاء الثلاثة عشر عاما وهو يدعو إلى الله في مسقط رأسه في مكة، وما استجابت لدعوة الهدى غير قلة من المستضعفين، وما أزعج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقدر ما أزعجه اضطهاد قريش له ولأتباعه وملاحقة أولئك الذين يستمعون إليه.

إن الهجرة هجرتان: هجرة اليأس من حيث هي استسلام للأمر الواقع والاستيطان في دول الآخرين والذوبان فيها، وهجرة الأمل من حيث هي تعبير عن إرادة التمسك بالوطن ورسالته بما يتطلبه ذلك من توظيف الهجرة من أجل العودة دفعا للظلم وتحقيقا للعدالة والسلام.

وهجرة الأمل كانت هي الهجرة النبوية، ومن خلال دروسها في إقامة نواة دولة المدينة على قاعدة احترام التعدد والتآلف بين الجماعات المختلفة.

عندما قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم يثرب مهاجرا من مكة، إنما كان يسعى ويناضل من أجل الحرية في نشر الدعوة، ومن أجل الحق في إقامة مجتمع متنوع عماده العدالة والتضامن، لقد خاطب المهاجرين والأنصار في كتاب المدينة في السنة الثانية للهجرة قائلا: (إن المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم إنهم أمة واحدة من دون الناس)، فالهجرة الشديدة الإيلام بترك الديار ومفارقة الأحبة وفقد الممتلكات كانت السبيل لتأسيس الأمة وإقامة الدولة، ولذا فإننا عندما نحتفي بذكرى الهجرة النبوية نحتفي بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحق والهدى وإصراره على تبليغ ما أوحي إليه من عند ربه، ونحتفي أيضا بظهور الأمة التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}(سورة الأنبياء، الآية: 92)، ونحتفي ثالثا بقيام الدولة أو بداية تكوين السلطة لإدارة شؤون الجماعة الجديدة ، وهكذا فإن الهجرة النبوية تجمع الدعوة إلى الأمة والدولة، فتحيل كل مسلم إلى تلك السنوات الزاهرة في المدينة المنورة التي تبقى عزيزة وخالدة في أفئدة المؤمنين، والذين يحنون لذكرى رسولهم صلى الله عليه وسلم ويمضون لزيارته محبين ومقدرين وقائلين قبيل صلواتهم: (اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد).

ناضل صلوات الله وسلامه عليه، وهاجر من أجل الدين والأمة والدولة، وديننا اليوم في محنة كبرى بسبب الانشقاقات فيه، وظهور الفئات المتطرفة في أوساطه، وشيوع التكفير بين مذاهبه، بل والاقتتال باسمه على دنيا فانية لا تساوي عند الله جناح بعوضة، لقد قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وهو يؤسس الهجرة وأجرها وثوابها على النية والقصد: (من كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، إن الذين يهجرون الدين اليوم إلى الطائفة والمذهب فإنهم يتجاهلون المعنى الكبير للدين ووحدته ووحدانيته وثوابته والتزاماته، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (دعوها فإنها منتنة)، وهو يعني بذلك العصبية أو الرأي أو المصلحة، وقال تعالى: {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} (سورة الكهف، الآية: 104)، فوالله ثم تالله وفي ذكرى الهجرة النبوية الشريفة: لا يقاتل أحد باسم الطائفة أو المذهب إلا كوفىء على حسب نيته في تقديم الدنيا على الدين، والطائفة على الأمة، والعصبية الفئوية القاتلة على الدين الشامل، دين الحق والصدق بلا مثنوية ولا عصبية.

وفي ذكرى الهجرة النبوية أيضا وأيضا حيث جرى الإعلان بدار الهجرة عن قيام الأمة الواحدة من دون الناس، ومن ضمن الإعلان أنه (يجير على المؤمنين أدناهم، وهم يد على من سواهم)، ومع ذلك نرى أن المسلمين اليوم يقاتل بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا، تارة على المذهب، وتارة على الوطن، وطورا على فهم معين للأمة، نعم، إنها حروب بين المسلمين في ديار المسلمين، ولا سبب ولا علة إلا الاستتباع للخارج أو الحرص على سلطة فانية ودنيا ساقطة، ثم يقال لنا تارة إنه صراع بين السنة والشيعة أو بين إيران والعرب، أو بين إيران وتركيا، وهذه جميعا أسماء ومسميات وأهواء ما أنزل الله بها من سلطان، إنني لأسأل هؤلاء الذين يتقاتلون ويقتل بعضهم بعضا: كيف ستلقون ربكم بهذه الدماء الغزيرة وهذه الجرائم الخطيرة، وأنتم تستخدمون الدين ستارا لمطامعكم في السلطة والثروة، أو طاعة لفلان وعلان ممن لا يستطيعون لا في الدنيا ولا في الآخرة أن يتحملوا مسؤوليات هذه المقاتل والجرائم عنكم"؟.

وبعد الدين والأمة، وفي ذكرى الهجرة النبوية: لقد أقام العرب وأقام اللبنانيون دولا ومؤسسات، وكانوا في وقت من الأوقات رمزا للحريات والتقدم وحسن إدارة الشأن العام، لقد أنهى الطائف حربا أهلية، وأقبل اللبنانيون على إقامة الدولة من جديد، لكننا ومنذ العام 2005 نشهد مساعي حثيثة لتقويض هذه الدولة اللبنانية التي كلفت اللبنانيين عرقا ودموعا ودماء، لقد كان يقال: إن لبنان أكبر من أن يبلع، وأصغر من أن يقسم، لكن القائلين لم يحسبوا حسابا لسيناريوهات أخرى قاتلة غير الابتلاع والتقسيم، إنها الهدم والتذويب ونشر الفوضى وإشاعة عقلية الارتهان، كأنما حياة الناس لا قيمة لها، وكأنما يمكن الاستغناء بالمسلمين عن إدارة الدولة والشأن العام، لا أدري من الذي يستفيد من وراء ضياع لبنان وهلاك شعبه وناسه أو تهجيرهم لا شيء، إلا لأنهم ما عادوا آمنين على حياتهم وعيشهم.

في ذكرى الهجرة نستذكر ونعتبر ونأخذ الدروس، وأهم الدروس: أن النية والقصد والإرادة تغلب على كل ما عداها، وقد ترك رسول الله الوطن الأم والديار والأقارب وهاجر لكي يستطيع تحقيق مشروعه وحققه، ومشروعنا نحن اللبنانيين الدولة الواحدة والوطن الواحد والجيش الواحد والعيش الواحد، وإنني في ذكرى الهجرة النبوية الشريفة أدعو اللبنانيين جميعا للتمسك بوطنهم ودولتهم ومؤسساتهم الدستورية مهما كلف ذلك من جهد وطاقة.

وفي ذكرى الهجرة النبوية الشريفة نذكر ملايين المهجرين ، ونذكر الأقليات الدينية والعرقية التي تتعرض للاضطهاد والتهجير، وفي ذكرى الهجرة نذكر المجتمعات والدول العربية التي يشيع فيها القتل والتخريب بسبب الفتن والانشقاقات والتدخلات الخارجية، لكننا أيضا وفي ذكرى الهجرة نذكر قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} (سورة البقرة، الآية: 208).

أول وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة المنورة، قام بأمرين: بناء المسجد في قباء، والإقبال على المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، كان المسجد للعبادة والاجتماع، وكانت المؤاخاة لبناء المجتمع الجديد القائم على التعارف والإخوة، فلنمض جميعا إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس، ولنخشع في عباداتنا التماسا لرحمة الله وفضله، ولنصغ لعهود أخوة الإيمان واليقين وحرمة الدم والعرض والمال، ولنتعلم من هجرته صلوات الله وسلامه عليه كيف نتصدى للتطرف بمنهجه الإلغائي الذي يهجر الناس من بيوتهم ومدنهم وأوطانهم، ونجعل من الهجرة القسرية أداة لتوحيد الإرادات وقاعدة لعودة تطيح بالظلم وأهله. {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (سورة الأنعام الآية: 82).

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، طبت حيا وميتا، مهاجرا ومجاهدا، مقيما للأمة، وبانيا للدولة، وحافظا للحرمات، ومؤمنا للناس الذين اعتبرتهم سواسية كأسنان المشط، اللهم اجزه عنا خير ما تجزي نبيا عن أمته، اللهم وارحم والطف بالملايين الملتاعة، وبالجائعين والمعذبين من أبناء هذه الأمة والعالم.

وكل عام هجري وأنتم أيها اللبنانيون، وأنتم أيها العرب والمسلمين بخير وامن وامان".
 

  • شارك الخبر