hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - سمير عطاالله

خمسة أمراء التغيير

الأربعاء ١٥ تشرين الأول ٢٠١٤ - 06:50

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

النهار

يختار أرشي براون في كتابه الجديد "خرافة الزعيم القوي"(1) خمسة نماذج من الرجال تحت عنوان "الزعامات السياسية التغييرية". هم، وفق ترتيبه، شارل ديغول، أدولفو سواريز، ميخائيل غورباتشيوف، دنغ شياو بينغ ونلسون مانديلا.
براون هو أستاذ العلوم السياسية في أوكسفورد منذ 50 عاماً. والمقاييس التي يبني عليها هذا الاختيار الشاق، قد لا تشبه دائماً معاييرنا الشرقية، كالأخلاق والعائلة والسلوك وأدب الخطاب، لكن هذه القواعد تبرز عملاقة من سيرة هؤلاء السادة: ديغول يكرّس حياته للعمل الخيري بسبب ابنته المُعاقة، ومانديلا لا يبقى ساعة إضافية واحدة في الرئاسة من أجل أن يكون في القرية مع أحفاده، وأدولفو سواريز ينقل إسبانيا من صدأ الفاشي فرانكو وحروبه وهوَس زوجته بجمع الفضيات وتنظيفها عصر الأحد، وميخائيل غورباتشيوف لا يقتل 30 مليوناً ليبقى، بل يقول للمخمور المتعتع بوريس يلتسين: إذا كنت تريد القاعة المذهبة في الكرملين فخُذها، ولكن لا دماء ولا فودكا مع قشر الخيار (لامتصاص السكر)، ودنغ شياو بينغ، الذي سجنه ماو كما سجن جميع الرفاق، ينقل الصين من "الثورة الثقافية" التي رأت عدوها الأول في الموسيقى الكلاسيكية وأبالستها، باخ وبيتهوفن وموزار، نقلها من عصور العدم والإعدامات إلى زهوها الكوني الحالي. لم يعد أحد منّا يعرف اسم رئيس الصين أو اسم مترجمته البشوشة، لكننا جميعاً نعرف أن ورَثة الرفيق دنغ على وشك أن يضعوا الصين في المرتبة الأولى بين سُعداء العالم لا بين جياعه.
يجب أن نلاحظ أن دنغ كان ماركسياً وأن غورباتشيوف كان لينينياً، وربما لا يزال. لكن تفسيرهما للماركسية – اللينينية لم يتضمن عبادة الذات بل محبة الآخرين وخيرهم. لم يرَ غورباتشيوف الحكمة في إرسال شعبه إلى سيبيريا ولا رأى دنغ أنه يجب تسليم أمور الصين إلى زوجة معتوهة. زوجة ديغول، العمة إيفون، كان لها حق واحد في سياسات فرنسا: أن ترفض دعوة الوزراء المطلّقين أو "المزَوْبِنين"، إلى العشاء في الإليزيه، الذي يدخله الرؤساء هذا العصر وهم "يُشنكلون" خليلتهم (خدينتهم؟) ومعهم أبناء من غير زواج مسجّل حتى في البلدية. فارق الأزمان.
جميع الرجال الخمسة جاؤوا بعد اهتراء وطني عام. بين 1945 و1958 عرفت فرنسا 25 حكومة و15 رئيس وزراء. ويوم خرج مانديلا من السجن كانت جنوب أفريقيا على حافة انفجار عِرقي مثل حروب الكونغو التي لا تزال دائرة إلى اليوم، فإذا به يترك المرارة في زنزانة 27 عاماً ويرفع اليد المباركة بالتحية للظالمين والمظلومين معاً. وشيء آخر: قبِل معونة مالية من معمر ليبيا لكي يدفعها ثمن طلاقه من ويني مانديلا: السياسة يمكن أن تُسلّم الى النساء، ولكن ليس الى الزوجات. الزوجة شيء غير مُنتخب.
وأما رايسا غورباتشيوف، الأستاذة الجامعية الحسناء، فكانت أول إمرأة تطلّ على شرفة الكرملين، وهي في شكل إمرأة، وربما على شكل ممثّلة من سيدات المسرح الروسي. وداعاً نينا بتروفنا خروشوف، والثوب المزهَّر مثل عاملات البناء في أوكرانيا، وداعاً أيتها السيدة بودغورني ووداعاً مدام غروميكو. كان الرفيق أندريه يشتري لها الثياب من عند "ميسيس" كلما جاء إلى الأمم المتحدة، ومع ذلك كانت تعاتبه: "هل من الضروري كل هذا الإسراف يا اندريه أندريافيتش"؟
كان غروميكو الرفيق الأحب إلى غورباتشيوف، لكن الزعيم الجديد كان يعرف، من تقارير سلَفه يوري أندروبوف، أن زمناً كاملاً قد انقضى. لم يعد ممكناً أن يعطيك الروس دوستويفسكي وتولستوي وبوشكين وتقابلهم لافرنتي بيريا. كان يعرف أن ابنة ستالين لجأت إلى الغرب لتعيش بقية الملحمة حزينة مثل بداياتها في الكرملين، وأن ابن خروشوف أصبح مدرّساً للعلوم السياسية في جامعة براون. هل يُعقل؟ أجل يُعقل. أبناء الكرملين يفضّلون شيئاً من الحرية على سقوف الذهب. لا شيء شخصياً ضد فلاديمير إيليتش أو نيات كارل ماركس، لولا أن الأول الذي عاش في جنيف والثاني الذي باع طقم الملاعق في لندن، أغفلا الاهتمام بحق بشري آخر، الحرية.
توفي إدواردو سواريز قبل أسابيع قليلة. لم تودّعه إسبانيا وحدها بل أوروبا برمّتها. فيما أغرق فرانكو أوروبا بالعمى الفاشي، وأبقى موسوليني حياً، في دولة كاثوليكية أخرى، عرف سواريز مثل غورباتشيوف مدى عمق الجرح الذي يحفره الاستبداد في النفوس. كانت لهذا الأمير شجاعة ديغول الذي قال للفرنسيين: "ودّعوا الإمبراطورية فلم تعد تعني سوى الموت"، وكان له نُبل مانديلا الذي قال لأهل البلاد، البشَرة لا تُحيي ولا تُميت، والحقد علل عام. وكانت له جرأة دنغ الذي قال للصينيين، لقد انتهى عصر الأرزّ المسلوق والدراجات وهوائيات "الكتاب الأحمر"، قوموا نحيا. ومن أراد الإصغاء إلى سوناتا "في ضوء القمر" لن نُرسل إليه فرقة من "الثورة الثقافية". أجل، هكذا كان اسمها، مثلما كان اسم "ثورة الفاتح"، مثلما كانت جميع دول أوروبا الشرقية تُسمّى "جمهوريات ديموقراطية" وكذلك، جمهورية كيم إيل - سونغ وورَثته. دوفالييه في هايتي كان أيضاً "أبا الأمة"، أما ستالين ففي عيده السبعين أُهدي إليه لقب "أبي الأمم"، لزوم تعداد الجمهوريات الاشتراكية جميعاً.
السادة الخمسة كانوا من أمراء الإصلاح والتغيير، كما يدوّن البروفسور براون. لكن قبل هذا وذاك، كانوا أمراء المصالحة الكبرى. أدولفو سواريز جاء من بيروقراطية فرانكو، وكان أول ما فعله الترخيص للحزب الشيوعي. واعتمد على زعيم الحرب سانتياغو كاريو في عقد الصلح الوطني وتناسي الحكم الإكراهي واستبداد الثقافة العفنة وأحفاد الحرب الأهلية.
كذلك جاء ميخائيل غورباتشيوف من آلة الحزب. وفيها عرف مدى الصدأ. وكان أصغر أعضاء المكتب السياسي سناً عندما انتُخب أميناً عاماً. وعندما شاهدناه في أول مؤتمر صحافي في جنيف العام 1985 كان يبدو أصغر بكثير مما هو في الرابعة والخمسين. وشعرت كأنني في مسرح أتمنى لو كنت أقرب إلى الرجل المؤدّي على الحلبة، كامل الأناقة في طقم كحلي بحري، تؤخَذ بطلاقَته ولو لم تفهمها، وكأنك تُدرك مدى شاعرية ناظم حكمت ولو لم تعرف من التركية، إلا "أمان جانم أمان".
قدّم "غوربي" للعالم صورة مختلفة عن حاجبَي بريجنيف وقبّعة خروشوف، أو بالأحرى قبّعاته، ومنها الصوفية المحوكة على الأرجح بأصابع نينا بتروفنا. كان نيكيتا عصبياً متوتّراً يضرب الطاولة بحذائه ساعة الغضب. وقد سلّى ذلك الغربيين طويلاً، لكنه آلم السوفيات جداً، فأرسلوه كعادتهم إلى النسيان.
مثل دنغ شياو بينغ ولد غوربي في قرية بعيدة عن العاصمة. لكن فيما شارك الأول في الثورة الشيوعية فقد انضم الثاني إلى الحزب بعد استقرارها. الأول سوف يصحّح النظام الاقتصادي، والثاني سوف يصحّح النظام السياسي. ولكن بعد تكدّس الأخطاء وامتلاء دائرة الناس بالألم والإذلال والفاقَة. أقام السوفيات دولة كبرى، أو فوق الكبرى، ونسوا أن يُقيموا دولة عادية طبيعية، فيها من الملفوف قدَر ما فيها من الصواريخ العابرة للقارات. عندما وصل غورباتشيوف أخيراً كان هاجس الملفوف قد حقَّر هاجس الصواريخ.
هناك إعلان لمخازن كارفور لا ترجمة دقيقة له Je positive avec Carefour. السادة الخمسة من أمراء التغيير التاريخي، كانت لهم ميزة أخرى، إذا كنت تبحث عن الأسعار المناسبة عند كارفور. كانوا إيجابيين. وُلد مانديلا وعلى وجهه تلك البسمة المقدّسة. غورباتشيوف بحَث عن الحلّ عند خصومه، وأدولفو سواريز بحث عنه عند الشيوعيين والاشتراكيين الذين قاتلَهم فرانكو المُغلق مثل قارورة في قبو عتيق مُظلم وبارد. كانت الروائية حنان الشيخ صديقة للروائي المصري إحسان عبد القدوس. لاحَظَ أول ما تعرّف إليها أنها تحمل إلى القاهرة شيئاً من لبنان: الاستهزاء. وكانت نصيحته، اسمعي يا عزيزتي، قلّة من الناس يستحقون الثناء ولكن ما من أحد يستحق التكبّر والغطرسة.
قاسم مشترك آخر في الأمراء الخمسة: جميعهم أحبّوا بلدانهم أكثر من أنفسهم. ديغول في منزل قروي، ومانديلا في منزل قروي، وغورباتشيوف يحوِّل دخْله من إعلانات "لوي فيتون" إلى الجمعيات الخيرية التي أنشأها باسم زوجته رايسا كالجمعية التي أنشأها ديغول باسم مُحزنته وابنته. ألغى دنغ العقاب الجماعي في الصين. وكرّس سواريز حياته داخل الحكم وخارجه من أجل أن تنسى إسبانيا صلَف الفاشي الذي تربّع على صدرها من 1939 إلى 1975. ذلك الصيف ذهبتُ إلى مدريد في الطريق إلى الأمم المتحدة، ولاحظتُ أن الناس قد فتحت صدورها. فكّكوا إرثه العقيم فوراً. ووصّل الإيجابيون إلى الحكم. وحاول الجنرالات إعادة السلطة واستعادة الميزان فتصدّى لهم بيروقراطي مجهول يُدعى أدولفو سواريز، ظنّه الناس سوف يهرب ويختبئ بمجرد نزول الخوذ إلى البرلمان.
من تختار إضافة إلى الأمراء الخمسة؟ لم يبقّ شيء من هولاكو وجنكيزخان وهتلر وبول بوت، فيما التاريخ يمتلئ اعتزازاً بالأسمرين، غاندي ومانديلا، و"الأصفرين" دنغ ولي كوان يو، والأبيضين ديغول وغورباتشيوف. وهناك صف طويل لا نتذكّره كل يوم لكن التاريخ يعرفه جيداً، كمثل بيار إليوت ترودو في كندا أو هلموت كول في ألمانيا أو داغ هامرشولد في هذا العالم.
 

  • شارك الخبر