hit counter script

مقالات مختارة - سمير عطاالله

"القصر البلدي" بالاتسو فيكيو

الأربعاء ١٥ أيلول ٢٠١٤ - 07:07

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

 النهار

اختلفنا على الماضي ونختلف على الحاضر ونتنازع على المستقبل. أي على التفسير وعلى العيش وعلى الأمل. كل خلاف كان نزاعاً دموياً وعميقاً. والسمة الغالبة هي الإجماع على رفض المؤسّسين: فخر الدين المعني، مؤسّس لبنان المدني، وفؤاد شهاب، مُقلّده الحديث. كلاهما مات منفيّاً، ضحية السلاطين الكبار أو الصغار. كلاهما متقدّم على زمنه، وعصره متخلّف. كلاهما أدرك أن ذروة المعرفة هي أن تعرف أنك لا تعرف، فأحاط نفسه بالمستشارين والعارفين وذوي الخبرات وأهل العقل.
ميزتهما، مثل تميُّز كل الرواد والعاقلين والحالمين بالبناء والمليئين بحاسّة التاريخ، أنهما كانا يصغيان. ثمة توافق على أن أرسطو معلِّم العصور، طالما أصغى وتعلّم من تلامذته. وكونفوشيوس كان يخرج إلى البرّية ويتعلّم من حكمة العصافير وعبقرية الطيور. وبعدها يُحاضر في حواريه.
تمّ الأسبوع الماضي في بتدّين اللقّش، جنوب الساحة، جلّ بو عقل سابقاً، وضع حجر الأساس لمبنى "القصر البلدي". هذا الدرزي المستقبلي الرؤيوي فخر الدين الكبير حاول أن ينقل من منفاه الإيطالي، النظام والجمال. بهرَه في فلورنسا، حاضرة عصر النهضة الأوروبية، القصر القديم. القصر البلدي "بالاتسو فيكيو". فحاوَل نقله إلى هذه الفسحة الصغيرة التي اتسعت في عهده حتى بلغت يافا وحلب وتدمر. شاهد روعة القرميد في توسكانا فنقل روعة القرميد إلى الجبال والسواحل. تعرّف إلى روعة العِلم في روما، فبعَث إليها الموارنة يعلِّمون ويتعلَّمون.
كانت إمارة فخر الدين أول دولة غير طائفية في المشرق، وربما في الشرق، وربما في العالم. تأمّل في ما حوله فوجَد فسيفساء من الناس فقال: فلنضمّهم في لوحة واحدة. لم يستبعد أحداً ولم يطرُد أحداً. لا أكثريّات ولا أقليّات ولا طوائف. وكان ذلك قبل الثورة الفرنسية ومن دون قناصل ومن دون مدَّعي عام يشقع الجماجم والجثث. أحبّ الجمال بكل معانيه وحاول أن ينقله، فغضب السلطان وأمَر بقتله. الجمال عدوّ المستبد.
قبل فؤاد شهاب بثلاثة قرون حاول فخر الدين أن ينظِّم الفوضى التي تركها التاريخ خلفه فيما هو يُغِير على هذه الأرض، كل مرحلة بخيول مختلفة. وجد نفسه، كدرزي، غير قادر على دعوة الآخرين إليه فذهَب إليهم، سنَّة وشيعة ومسيحيين. واكتشف فؤاد شهاب أن السلطة المارونية تسيء إلى سمعة المسيحيين ومستقبلهم، فسارع إلى العدالة الاجتماعية ودولة القانون.
نحن، في بتدّين اللقّش، وصلَت إلينا الكهرباء مع انتخابه. وكان في المنطقة قرية تدعى "اسطبل" فطلب تغيير اسمها إلى "عين المير". هكذا فعل بالقرى الأخرى التي كانت تحمل أسماء وألقاب الجلول والحمير. مثله مثل فخر الدين، أوْلى الجماليات والذوق والتقدّم والقانون والنُظم، الكثير من همِّه.
قبل أن يخوض السياسي الفرنسي معركة النيابة أو الرئاسة، عليه أن يشرِّف نفسه بمعركة رئاسة البلدية. أصبح جاك شابان - دلماس رئيساً للجمعية الوطنية وظلَّ معروفاً بأنه عُمدة بوردو. من هذا الباب يحاول آلان جوبيه دخول معركة الرئاسة. وفيلي برانت أصبح مستشاراً لألمانيا الغربية لأنه كان عُمدة لبرلين الغربية أيام عذابها وجدارها. وجان درابو في مونريال اعتبر أن منصبه أهم من منصب الحاكم العام فطلب، رسمياً، أن يُنادى !Monsieur le Maire لا اعتقد أن رئيس بلديتنا نبيل القطار سوف يخوض معركة الإليزيه أو منافسة أنغيلا ميركل. ولكن بقدر ما نحن معنيون، في قرية من ستين بيتاً "مسرورة عَ راس التل" فقد أدّى عمله وكأنه يحاول ترميم البندقية.
لا أريد أن أثقِل على جنابكم في هذا الزمن الكبير بشؤون القرى الصغيرة، لكننا مَدينون في طرقنا وسُبلنا لعنايات كثيرة، أوْلاها عناية الرئيس نبيه بري. ولن ننسى ما صرفه نائبنا الدائم سمير عازار من تكرّس وجهد وخُلق، لكي تكون القرية أفضل مما سبق. وأنا شخصياً مَدين، كمواطن، لهما وللوزير غازي العريضي، الذي عامَلَنا كأننا امتداد لبيصور.
أحببنا هذه المنطقة أقلّ مما تستحق بكثير. لم نعرف قيمتها المذهَّبة لأننا مأخوذون في يوميات الدنيا. لم نُعامل جزين كما عامل الزغرتاويون إهدن أو الزحلاويون وادي العرائش، ولا أعطْينا الشلال الهادر مثل خيط عال من نياغرا، ما أعطى الزحالنة الخيط السارح المعروف بالبردوني. ولعل أصل التسمية نسبة إلى برَدى الأكبر، الذي كان رمز دمشق في خصبها وزهوها.
يُحزنك التأمل. يقول أرسطو (وأعتذر عن كثرة الاستشهادات بالمعلّمين، للإظهار وليس للظهور) إن الإنسان يتشارك مع الحيوان في الطعام والتوالُد والتوقّع، ويختلف عنه في التأمل، أو التفكير. ليس للأبقار والأفيال والنحل تاريخ أو أسماء أو قادة. عندما نتأمّل أن فخر الدين كان هنا قبل أربعة قرون، بماذا نشعر؟ كيف يمكن أن تستقيم في كرسيّك وأنت تقرأ قوله: "لم آتِ لحُكم أو مُلك، وإنما أتيت لحماية لبنان". كان لبنان في مهبّ الرياح الخارجية التي تتغيّر مصادرها ودرجاتها وشرورها. السلاطين و"وعّاظ السلاطين"، كما في عنوان الدراسة الجميلة للدكتور علي الوردي، عالِم الاجتماع الذي كان للعراق ما كانه جمال حمدان لمصر، وما هو الدكتور سمير خلف للشخصية اللبنانية التي تردّد أناشيد الاستقلال والسيادة وهي سائرة في مواكب الغرباء.
كان علي بزي معلماً نادراً وصديقاً نادراً. وكان يقول لي، غداً عندما تتزوّج وتُرزق، احرص على أن تأخذ أولادك إلى المدن التاريخية قبل أن يراهقوا ويهتموا بأشياء أخرى. وكان يقول، بلهجته الجنوبية: "إينا، بلّشت لهم بفلورنسا". وعندما كبر ابني وابنتي قليلاً، أخذناهما، أمهما وأنا، إلى فلورنسا.
شعرت على تلّة المدينة بأنني أفي نُذراً لعلي بزي. وأدركت من اصطفاف سقوف القرميد كم كان فخر الدين مفعماً بإحساس الجمال. وعندما بنيت بيتي على المنطَرة، نقلت من ذلك المشهد ثلاثة أشياء: القرميد، ولون الجدران الخارجية، وشجر الكستناء. وسوف تمضي عقود قبل أن تُورِف الكستناءات الثلاث، كما هي كثيفة ووارفة على مطلّ الـ"بالاتسو فيكيو".
سوف تكون في "القصر البلدي"، جلّ بو عقل، قاعة واحدة تجمع أهل الضيعة في مناسباتها القليلة. الأعراس لم تعد تُقام هناك بل في قاعات بيروت الكبرى. ولكن في المناسبات يتخلّى كل منا عن كبريائه وموقعه في الصفوف المتقدمة، ويحني رأسه مشاركاً أو مؤاجراً ومتعاطفاً. تقع بتدّين اللقّش في قلب إمارة فخر الدين ومملكة عاصي ومنصور وفيروز: من ناحية سنَّة صيدا، ومن ناحية شيعة النبطية ودروز عماطور وعقّالها.
لم نتعرّف إلى عماطور من حُسن الجوار بقدَر ما تعرّفنا إليها في كتاب للدكتور وليم بولك (هارفرد) الذي عاش فيها نحو عام ووضع عنها أطروحات عن القرية المثالية. وأغنى الآداب الإنكليزية أيضاً بترجمته لمعلّقة الشاعر لبيد. ومن أجل ذلك ذهَب إلى نجد وترحَّل في بواديها لكي يعيش مناخ الشاعر الجاهلي ومشاعره.
في ما عدا مرحلة الحرب الأهلية، لا أذكر خبراً عن "ضربة كف" في منطقة جزين. ولكن الآن بدأنا نرى ملصقات حزبية في حجم العماير. وتحدّيات لا ذوْق فيها. ونسمع لغة لم نألَفها يوماً، من "وادي الليمون" إلى "تومات نيحا". نحن، سوف نبقى في عصر فخر الدين. زمن "كاميلوت".
أراد فؤاد شهاب أن يردّ عنا وَيلات الحرب، فعزَلناه. حاول أن يبلِّغنا أن الدمار آت، فأسكتناه. أراد أن يشرح لنا إلى أين سيقودنا الاستهتار والنرجسيات والأنانيات التي تحرق البلدان من أجل حفلة تصفيق. تركناه يموت يأساً من إقامة دولة وقيامة وطن. نحن لم ولا ولن نستحق ذلك النوع من الرجال الذي لا يسمح لنفسه بأكثر من علبة "يانيجه". لا أبناء، لا أشقاء، لا أقرباء، لا أصهار، لا أزلام، لا ثرثرية. بيت صغير و"كابيلا" قبالته، مأخوذة أيضاً من جماليات إيطاليا، حيث كانت "الكابيلا" تُفصَل عن البيت لكي تكون الصلاة بعيدة من دنَسه وصغاراته. صلِّ دائماً خارج نفسك. بدأ فؤاد شهاب بناء الجمهورية في القرى والأطراف. هو كرئيس، وريمون إده كـ"أنتي - رئيس"، أنتي وزير، أنتي نائب، أنتي كل شيء. أيقنا أن بناء لبنان يبدأ باستعادة الجنوب من عالم الفقر والحرمان والتجاهل. بحث فؤاد شهاب لجمهوريته عن الأخلاقيين وذوي القيَم المدنية، فضمّ إليه علي بزي وكوْكبة من الرجال الذين سوف يُذكرون في تاريخ الإلفة والعقل. تجارب يتيمة، تُزهر ثم تَذوي. ومع الوقت قد تيْبَس الأرض وتُولد الأزهار ذاوية. ولا يعود هناك سوى لمعات باهتة من الماضي. لاحظ بأي حزن وأسى ننتحب على الذين يغيبون وكأنهم لن يعوَّضوا بعد اليوم. لاحظ كيف نرثي دُعاة العصر المدني وآفاقيي فخر الدين. الذين في أثواب دينية وليسوا طائفيين، الذين أبناء قرى صغيرة وبنوا المدنيات الفسيحة. كأنما يأخذون معهم حجراً من حجارة الزاوية التي أقاموها، رجال مثل هاني فحص.
"القصر البلدي" في بتدّين اللقّش، يبنيه المغترب سليمان قطار، الذي ترك الضيعة إلى كندا يافعاً. وأول الحرب أسّس جمعية "وَلَدي" للعناية بأطفال لبنان. لم يبنِ لنفسه بيتاً، مثلنا، فضّل أن يبني قصراً للجميع، تكريماً لذكرى والده، الذي غاب عن تسعين عاماً، وهو يربّي الأرض، ومثل فرنسيس الأسيزي، يحاكي الشجر. إهدأي يا عزيزتي الصنوبرة لئلا تلفحُك الريح.
 

  • شارك الخبر