hit counter script

كلمة المفتي عبداللطيف دريان بمناسبة انتخابه

الأحد ١٥ آب ٢٠١٤ - 16:59

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

ألقى المفتي عبداللطيف دريان بمناسبة انتخابه كلمة قال فيها: "لقد أنجزتم اليوم بتوفيق الله عز وجل ، ومساعي كل المخلصين ، عملية انتخابية ستكون بإذن الله فاتحة خير ووفاق على هذه المؤسسة الإسلامية والوطنية الجليلة ، وعلى المجتمع الإسلامي في لبنان ، وعلى كل مريدي الإصلاح والاستنارة والنهوض والاعتدال في ديننا الحنيف، وفي وطننا الحبيب لبنان".

أضاف: "لقد أصاب دار الفتوى ، ما أصاب الوطن في السنوات الماضية من انقسام من حولها، وانقسامات في قلب مؤسساتها ، وتراجع في خدماتها الوطنية ، وفي القيام بدورها الجامع ، ومهماتها الاجتماعية الكبرى التي عرفها لها وعنها اللبنانيون على اختلاف الديانات والطوائف ، وعرفها لها وعنها العرب والمسلمون في مشارق الأمة ومغاربها ، ولذلك فإن الذي جرى اليوم هو تعبير عن إرادة قوية من جانب كل المسلمين في لبنان في مواجهة المشكلات ، وتسديد المسار،

والتصميم على متابعة المهام والدور ، والإسهام المعهود من جانب هذه الدار العريقة في صون الشأنين الإسلامي والوطني".

وتابع: "أيها المسلمون، إن لكل مبادرة في المجال الديني والوطني مهمة ورسالة وبرنامجا، وإنني وقد حظيت بدعمكم وثقتكم ، كلي تصميم أن أكون على مستوى الأمانة التي عهدتم لي بها في رعاية الشأن الديني والوقفي والقضائي والخيري ، بحسب المراسيم والقوانين والأعراف المرعية ، وبما تقتضيه النزاهة ، وتقتضيه الشورى ، ويقتضيه قبل ذلك وبعده تقصد وجه الله سبحانه وتعالى والاحتساب عنده ، والتماس أجره وطاعته ورضاه. لا مجال بعد اليوم للانقسام بين المفتي والمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، فقد وضعنا مشترعونا وأسلافنا على طريق واضحة في التعاون والتضامن وأداء المهام والصلاحيات ، وقد تلقينا درسا بل دروسا في هول ما يحصل عندما يحدث الخلاف والانقسام ، ولذا فأنا مصر اليوم وغدا على العودة لمسار ومسيرة الألفة والوحدة والعمل بقدر الوسع والطاقة مع المجلس الشرعي لاستدراك ما فات ، والاستعداد لما هو ضروري وآت ، إن رعاية الشأن الوقفي ، والخيري ، والديني، والاجتماعي من طريق المؤسسات القائمة ، والأخرى التي يستحدثها المسلمون العاملون، ضرورة دينية ووطنية وإنسانية ، وكما سبق القول ؛ فإنني مصمم على العمل مع المجلس الشرعي، ومع المجلس الاستشاري، ومع الإدارات الوقفية، وإدارات المؤسسات الخيرية، وإدارات صناديق الزكاة ، على تلافي ما وقع من أضرار في العمل وفي الثقة ، فنحن في المؤسسات الدينية رأس مالنا ثقة المجتمع الإسلامي في لبنان بنا ، وإحساسه بأننا قائمون بمهامنا له وبه، وأننا إنما نعمل في خدمة مصالحه وقضاياه واهتماماته. ومضيا مع هذا المسعى الذي حصل اليوم ، والذي أجمع عليه كبار المسلمين ، يكون علينا القيام بإعادة بناء المؤسسات من طريق الانتخاب ، بدءا بالمجلس الشرعي والمفتين المحليين والمجالس الإدارية للأوقاف ، وسائر الجهات التي تناولها المرسوم الاشتراعي رقم 18 للعام 1955، أو تناولتها قرارات المجلس الشرعي ومقترحات لجانه المتخصصة ، الجهد الانتخابي جهد في التنمية والتطوير، وهو قبل ذلك جهد في التوعية بشأن المشاركة والمسؤولية وفي شأن التداول على السلطة ، والمحاسبة على أساس الأداء في تحمل المسؤولية".

أضاف: "إن هذا القصد التسديدي والتطويري، لا يستقيم إلا بإعادة النظر في أوضاع الجهاز الديني، والوضع لهذه الجهة ليس مطمئنا بالفعل ، إن التعليم الديني في مدارسنا الدينية ومعاهدنا وكلياتنا يعاني من علل كثيرة ، والتعليم الديني في المدارس الرسمية والخاصة لا يكاد يقوم بمهام الحد الأدنى في التربية على الدين والأخلاق ، نحن نعاني من التشرذم وضآلة الكفاءة في ممارسة هذه المهمة الجليلة التي لا تستقيم التربية الدينية والاجتماعية بدونها. نعم ، لدينا تفلت كثير وكبير، ولدينا من جهة ثانية تشدد وانكماش وغربة وغرابة ، بالطبع، لا ينبغي أن نحمل أنفسنا نحن القائمين على التعليم الديني المتخصص والعام وعلى التربية الدينية في المدارس والكليات والمعاهد والمجتمع ما لا نطيق، وما لسنا مسؤولين عنه. لكن من جهة أخرى : ما هي المهام التي بقيت لنا نحن أهل المؤسسة الدينية؟ بقي لنا الشأن الوقفي والخيري ، والشأن القضائي (قضاء الأحوال الشخصية)، والتعليم الديني ، والإفتاء ، والإرشاد العام ، وهذه مهام جليلة وكبرى ، ونحن مسؤولون عنها بالأمس واليوم وغدا ، ومن حولنا يضج مجتمعنا الإسلامي واللبناني بالشكوى في كل تلك الشؤون ، وبخاصة في مجال التشدد والتطرف ، ديننا دين الاعتدال ، وديننا دين التسامح والعيش المشترك ، ولست أزعم أن التربية الإسلامية لو استقامت سوف تعالج كل مشكلات التطرف ، لكن لنقم بمهماتنا الإصلاحية، ثم لنطالب الآخرين بالقيام بواجباتهم".

وقال: "نحن محتاجون الآن إلى جهد في إعادة تنظيم المعاهد الدينية ، وفي تطوير البرامج وتدريب المدرسين ، وفي العناية بثقافة الأئمة والخطباء في المساجد ، وفي الإشراف الأقوى لدار الفتوى على المدارس الدينية الرسمية والخاصة. وسوف أصارحكم بحقيقة أو حقائق عشتها مع سماحة المفتيين الشهيد الراحل الشيخ حسن خالد والشيخ الدكتور محمد رشيد قباني من مواقع مختلفة إضافة للعلاقات الشخصية ، ما طلبنا من مجتمعنا الإسلامي في لبنان والعالم العربي أمرا من أجل الرعاية والإصلاح والتسديد وصنع الخير والخدمة الاجتماعية ، إلا وجرت الاستجابة بأكثر مما قدرنا أو حسبنا، شرط الثقة والكفاءة".

أضاف: "إننا محتاجون اليوم وغدا إلى مكافحة الفقر والحاجات الاجتماعية ، ومحتاجون اليوم قبل الغد إلى مكافحة التشدد والتطرف والعنف باسم الدين في أوساطنا ، ومحتاجون إلى تواصل وتفاهم أكبر في العلاقات الإسلامية- الإسلامية ، والإسلامية- المسيحية ، ومحتاجون لبلوغ كل ذلك إلى فكر إصلاحي ومبادرات إصلاحية كبرى ، ومحتاجون للقدرة على القيام بذلك أيضا إلى ثقة المجتمع الإسلامي والوطني والعربي ، إنها المهام الكبرى الضرورية للأوطان والأديان، وهي تتطلب منا أن نكون على مستوى الرسالة التي عهدنا لأنفسنا بها، واعتبرناها واجبا دينيا ، لنقم بواجباتنا في الإصلاح ومكافحة التشدد ، وأنا واثق من استجابة الناس لنا ، لأن ديننا هو دين التوسط والمسالمة ، أولم تسمعوا قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين } سورة البقرة - آية 208 ، ثم إن تجربتنا في العيش اللبناني تدفعنا بالاتجاه ذاته ، فالانعزال لا خير فيه ، والتشدد ما كان محمودا ولا سليم العاقبة لا في التجربة اللبنانية ، ولا في التجارب العربية والإسلامية العامة".

وتابع: "أيها المسلمون، أيها اللبنانيون، إن هذا المقام هو مقام مصارحة ، كما أن هذه الدار كانت وما تزال دار مصالحة ، والمصارحة بقصد المصالحة تقتضينا القول إن العلاقات بين الشيعة والسنة بداخل الإسلام وبداخل لبنان أقل ما يقال فيها أنها ليست على ما يرام ، وأنا على يقين أن أحدا منا سواء أكان رجل دين أو سياسيا ما قصد الإساءة إلى وحدة المسلمين أو اللبنانيين ، لكن وقعت الواقعة، وتفاقمت النزعة المذهبية والطائفية ، وظهر عندنا وعندهم غلو كثير ، وحدث استخفاف كبير بالأنفس والأعراض والممتلكات التي أمرنا رسول الله بصونها في خطبة الوداع ، إن ما يجري بالعراق وسورية ولبنان واليمن وليبيا هول هائل ، وما نصنعه بأنفسنا يكاد يعجز عن صنعه الإسرائيليون في غزة وفلسطين ، ولا علة لذلك غير الطغيان والتطرف: فهل نقعد عن أداء واجب المبادرة التي أمرنا بها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بقوله : (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) . وقوله : (مثل المؤمنين فى توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى)".

وقال دريان: "لا بد من المبادرة، لأن الخسائر هائلة ، ولأن الفتنة بحسب ما جاء في القرآن الكريم لا تنال من المتورطين فقط: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب} ، وقد قال الإمام الطبري في تفسيره إن العقاب الشديد لا ينال المتورطين في الفتنة فقط، بل ينال أيضا أولئك الذين كانوا قادرين ولم يبادروا إلى إخمادها ، أعلم أن عديدين منكم حاولوا ويحاولون ، وسأتشاور معهم ومع القيادات الدينية اللبنانية والعربية فيما يمكن عمله لمواجهة هذا الشر المستطير ، فهذه مهمة دار الفتوى ووظيفتها من أجل الدين ووحدة المسلمين والانتماء العربي ، وإنقاذ لبنان. إن هذا الشر المستطير لا ينال فقط من وحدة الأوطان ، ومن سلام الإنسان والعمران ، لكنه إنما ينال أول ما ينال من ديننا الذي ساء مشهده ليس في العالم البعيد فقط ؛ بل وفي العالمين العربي والإسلامي".

أضاف: "أيها المسلمون، أيها اللبنانيون، بيننا وبين المسيحيين في الوطن والثقافة والقومية شراكات ووجوه عيش عريق ، وقد اختلفنا ونختلف في أمور كثيرة ، لكننا ومنذ قرر القرآن الكريم أن النصارى هم الأقرب مودة لنا ، ما اختلفنا على الحق في الدين وفي الوطن وفي الحرية وفي الكرامة والعيش المشترك ، فكيف يرغم المسيحي بالموصل وغير الموصل على ترك الدين والدار ، وتتهدد حريته وكرامته وحياته من هذه الجهة أو تلك وباسم قهر فاجر ما أنزل الله به من سلطان؟ إن الدفاع عن الدين والوطن والعيش المشترك يقتضينا نحن اللبنانيين جميعا ، ونحن العرب جميعا ، أن نقوم معا، وبمقتضى التجربة العريقة، بالواجب الديني والأخلاقي والوطني والعربي في مكافحة هذه الفئة الباغية على المسيحيين كما كافحنا ونكافح هذا التطرف دفاعا عن ديننا وإنساننا، هناك اثنا عشر مليون عربي مهجر، ونصف مليون قتيل عربي خلال أقل من خمس سنوات ، وتهجير المسيحيين والفئات الأخرى أو اضطهادهم من ضمن ظواهر الطغيان والتطرف والتمييز ، والتي ينبغي مكافحتها اليوم قبل الغد ، وإنني لأتوجه إلى الشركاء المسيحيين بمشاعر التضامن والتعاطف وإحقاق الحق والقسط ، فنحن معا نستطيع القيام بالكثير انطلاقا من لبنان ، وطن الرسالة والإنسان".

وتابع: "أيها المسلمون، أيها اللبنانيون، كانت دار الفتوى في لبنان وستظل بيئة للاجتماع والتضامن والمصارحة ، وموطنا للتآلف والمسؤولية والمصالحة ، نحن نخطئ ونصيب ، لكننا لا نضعف ولا نستضعف ، إن المسلم الحق ، وهو في أشد حالات الضيق والمرارة ، يظل يفكر بالآخرين واحتياجاتهم كما يفكر بنفسه ، نحن نعاني اليوم ، بل ومنذ عقود من مشكلات كبرى هي مشكلات الحياة الوطنية اللبنانية والعربية ، وما بقيت مدينة ولا قرية من قرانا إلا وعانت في السنوات الأخيرة من الفقدان في الأرواح وما هو أعز من الأرواح ، وبغياب السلطات كما بحضور بعض السلطات ، لكننا اليوم وغدا وبعد الغد، نبقى أهل الجماعة والألفة والوصل والمودة والمبادرة ، بالأمس كانت وما زالت عرسال هي الحدث ، وقبلها طرابلس ، وقبلها صيدا ، وقبلها بيروت. لكننا نبقى أهل الجماعة وأهل الدولة وأهل المبادرة ، تحملنا العبء الأكبر في نزوح السوريين من أتون الحرب المدمرة الدائرة في الجوار ، وتحملنا قبلها العبء الأكبر في اللجوء الفلسطيني من الاحتلال الصهيوني ، وبين هذا وذاك تحملنا وما نزال- العسف والقتل والاغتيال طوال العقد الماضي من القريب القريب، لكننا نبقى أهل الجماعة وأهل الدولة وأهل العيش المشترك والمبادرة".

وقال: "لقد شد كبير العرب والمسلمين الملك عبد الله بن عبد العزيز على أيدينا ، وعهد إلى دولة الرئيس سعد الحريري ، ابن أسرة الخير والود والتواصل والمبادرة بالوقوف إلى جانب الدولة ضد التطرف ، والعمل على لأم جراح المسلمين واللبنانيين ، ونحن إذ نحيي مبادرة خادم الحرمين الشريفين ونقدرها ، نطمئنه ونطمئن اللبنانيين إلى أنه لن يغير من طبيعتنا الطغيان ولا العدوان ولا التطرف ولا الإرهاب ، وسنبقى اللحمة والبلسم في لبنان ومن أجل لبنان ، ولن يخرجنا عن طورنا أحد أو حدث أو جور أو استئثار أو عنف ، لأن يد الله على الجماعة ، ولأن حب الوطن من الإيمان ، ولأن التطرف قطيعة وانبتات وقد قال رسولنا صلوات الله وسلامه عليه (إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى)".

وختم دريان: "إن الذي أرجوه في هذه الخاتمة ، أن تستطيع هذه الدار دار الفتوى ، دار الوطنية والعروبة والإسلام ، البقاء دارا جامعة لكل المسلمين وللعلماء ، عاملة لهم وبهم بدون تفرقة ولا تمييز ، وستبقى دار الفتوى في السنوات المقبلة بحسب تراثها العريق ، على صورة المسلمين اللبنانيين في سماحهم وسماحتهم ، وودهم وحضارتهم ، واقتناعهم العميق بوطنهم ودولتهم ، وعيشهم المشترك، وانتمائهم العربي، وأمانتهم لدينهم وأمتهم.
أشكر الإخوة الحاضرين على الثقة والتأهيل بالانتخاب لتولي هذا المنصب الجليل ، وأسألكم وأسأل المسلمين خارج هذه القاعة واللبنانيين جميعا الدعاء والمساعدة ، فأنا في أشد الحاجة إليهما ، واختم كلمتي بقوله تعالى : { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين * ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم }".
 

  • شارك الخبر