hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - سيف الدين عبد الفتاح

نكسة الانقلاب والاستهانة بالدماء

الجمعة ١٥ تموز ٢٠١٤ - 07:36

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

العربي الجديد

من الدروس المهمّة التي نقرأها، بعد أكثر من ثلاث سنوات على ثورة 25 يناير، والتي تتالت فيها مراحل انتقالية، فشلت كلها أو أفشلت مع سبق الإصرار والترصد، وطوال هذه الأيام، وتجدد الأحداث، كنا نرى أن الاستهانة بالدماء صارت من المسائل الأساسية التي يستبيح فيها صاحب القوة والسلطة دماء الناس، من غير حساب ومن غير عقاب، وبدت هذه الأمور خطاباً ثابتاً، يتحدث بعض الذين يضطلعون بالمهام الأمنية أن يحرّضوا بالضرب في المليان، وفي القلب وفي الرأس، مع وعد من السلطة أن لن يطولهم أي عقاب أو أي حساب. الأمر في ذهن السلطة هو القيام بعمليات تطويع وتركيع وتفزيع لصناعة عقلية القطيع، حيث يسلس قياده، وتضمن طاعته، وفي طوال هذه الأحداث، وقع شهداء، واستبيحت نفوس، وأزهقت أرواح بغير عدد، وبغير إحصاء دقيق، فكأن من مات أو قُتل أو استُشهد لا يستحق حتى أن يُحصى عدداً، فضلاً أن يتخذ له قصاص.

مع مرور الأيام، وتواتر الأحداث واختفاء المطالبات، بدا الأمر في مسار آخر، وكأنها سياسة ثابتة من أهل السلطة، تعطي لذاتها، كسلطة قمعية، أن تقتل وتقنص وتطارد من غير حساب، أو مسؤولية، أو مساءلة وعقاب. وبدا الأمر، في كل الأحوال، وكأننا ننتظر فقط مزيداً من الشهداء ومزيداً من استباحة الدماء. صارت كل هذه الأمور طقساً متواتراً؛ الاحتجاجات ينتج عنها شهداء، ولا يحاسب هؤلاء، ولكن، يحاسب من احتج، أو تجرأ على أن يقول لا، أو أن يكشف طبيعة هذا النظام، القمعية والاستبدادية. ومن هنا، شهدنا ليس فقط هذا الوقوع شبه اليومي لشهداء، أو قتلى، ولكن الأمر شهد مجازر حقيقية تعددت. نستطيع أن نقول، باطمئنان، وفي ظل إحصاءات محايدة، إن هؤلاء يحصون بالآلاف، علامة ومؤشراً إلى أن أصحاب السلطة لا يقيمون وزناً للإنسان، ولا لأي كيان، ويستهينون بالأرواح، ويستبيحون كل نفس، ولا يقيمون وزناً لهذا الميثاق الغليظ، المتعلق بالنفس، والمتمثل في القصاص (من قتل نفساً بغير نفس، أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً).

"
في كل مرة، تنصب سرادقات العزاء، ونشهد الجنازات العسكرية، لكننا، في كل مرة، لم نعرف لماذا قتل هؤلاء، ولا يعرف من قتلهم؛ تخرج البيانات، لتؤكد هذا الاضطراب والتضارب

" في ظل هذه الحالة السائدة، والسياسات الممتدة، صار ذلك ديدناً لأصحاب السلطة، وتعدّت تلك الاستهانة بالنفوس، واستباحة الأرواح مسائل تتعلق بالتظاهر والاحتجاج، إلى النظر للإنسان، وكأنه لا وزن له، ولا قيمة لحياته. وبدت الأمور تتحول إلى أن الإنسان تحول إلى مجرد رقم، وربما ضنوا عليه كذلك بأن يُحصى عدداً أو رقماً، ومن ثم، وجدنا أشكالاً كثيرة للاستهانة بالنفوس، واستباحة حرمة الدماء، وكأن ذلك أصبح سلوكاً يومياً، تقوم به السلطة، وهي تضمن أن تزيد فاتورة الدماء، ولا يمكن بأي حال محاسبة من قتل أو أساء. باتت المسألة قيام السلطة بتزوير الحقيقة، فكانت الاتهامات للأحياء والشهداء، وساومت أهليهم عند دفن الأجساد، ليموهوا على سبب الوفاة والحديث على الانتحار، حتى لو تعددت الرصاصات في ظهره، أو في قلبه، أو رأسه.

إن التأكيد على أن ذلك صار سياسةً ثابتةً، تؤكدها مشاهد أربعة: الأول مشهد الأحداث التي تواترت بعد ثورة 25 يناير من أحداثٍ، تصاعدت إبان جمعة الغضب ومواصلة انتهاك حرمة الحياة لكل مواطن، أو إنسان على أرض هذا الوطن، مروراً بأحداث عدة في البالون وماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء وبورسعيد والعباسية، وقصر الاتحادية وقصر النيل. واستمرت هذه السياسات في كل مرحلة تتراكم من غير قصاص، ولا يبدو في الأفق أي عمل حقيقي لإعمال المساءلة عن دماء الشهداء، وبعد الانقلاب الذي ورث هذه السياسات القمعية والاستبدادية، إلا أنه زادها دماءً، وجعلها استراتيجية للترويع والتركيع، حتى أنه في عام واحد قتل الآلاف، واعتقل أزيد من أربعين ألفاً، وبدت كل المؤشرات في الاستهانة بحياة الإنسان وكرامته، واستباحت دماءه من كل صوب، ومن أقرب طريق، فها هي مجزرة الحرس الجمهوري، والمنصة، وفض اعتصامَي ميداني رابعة والنهضة، وأحداث مسجد الفتح برمسيس، وذكرى 6 أكتوبر، واحتفالات ثورة يناير والتي شهدت قتلاً ورقصاً في آن واحد، فذاك يقتل وذاك يرقص ويحتفل، وأحداث أخرى صارت، من كثرتها وتراكمها، تستعصي على العد والإحصاء، وفي كل جمعة يقع الشهداء وتسيل الدماء.

يشير المشهد الثاني إلى تلك الأحداث التي يسقط فيها من جنود القوات المسلحة، وفي تكرار لمثل هذه الأحداث، وتواترها، من دون أي تحرك حقيقي لمواجهة هذا الاستهداف لجنود القوات المسلحة على حدود مصر الدولية الشرقية والغربية. وفي كل مرة، تنصب سرادقات العزاء، ونشهد الجنازات العسكرية، لكننا، في كل مرة، لم نعرف لماذا قُتل هؤلاء، وبروايات متضاربة متناقضة، ولا يعرف من قتلهم؛ تخرج البيانات، لتؤكد هذا الاضطراب والتضارب، لكنها، في كل مرة، لم تكن إلا تعبيراً عن الاستهانة بالنفوس والدماء، حتى لو كان الخطاب أنه سيتابع المجرمين بالمطاردة والقصاص، صرنا نسمع هذا في بياناتٍ محفوظةٍ، ولم نسمع، مرة، أنه ضبط الجناة، أو تم محاسبة المسؤولين عن ذلك تقصيراً وإهمالاً. وبدت الأمور في حادث الفرافرة تعبر عن الاستهانة نفسها، ومن قائل إنهم في العراء، من دون حماية، وأن الكمين غير مؤمن أو أمين، ولا نجد من خطاب بعد ذلك إلا الحديث عن دعاوى محاربة الإرهاب من كل باب، ووصلت الاستهانة حينما تسلم جثث الشهداء بشكل اعتباطي، غير منضبط، فيذهب الشهيد إلى غير أهله، ولا نرى حساباً على كل هذه الاستهانات والإهانات.

وها نحن نرى في مشهد ثالث الذين غرقوا، وهم يهمون بالهجرة غير الشرعية، تدفعهم في ذلك أحوال معيشية قاسية، وفقر مدقع وبطالة دامية، حتى أن بعض هؤلاء الشباب يرى في هذه المخاطرة إنقاذاً له ولحياته، ولو عرّض حياته للموت والهلاك، وها هم سماسرة الموت يتاجرون بالأرواح، ويتحدث بعضهم عنهم من علماء، يسمون علماء الدين بأنهم جشعون وطماعون، وفي اتهامات خطيرة لكل هؤلاء، تنسى الدولة ومنظومة الانقلاب، على وجه الخصوص، التي أفقدت الناس الأمن والأمان، واتسعت مساحة بطالتهم، وانطمست الآمال في حركتهم، فيؤدي هذا كله إلى انقطاع الأمل والعمل، ما يؤدي إلى استصغار شأن الحياة، والمخاطرة بها، فمن دفعه إلى ذلك سوى الإفقار في برّ مصر، والقيام بكل ما من شأنه أن يكرس عطالته وبطالته، حتى يصل إدراكه نفسه، ووصف ذاته، وكأنه فُني وهو حي؛ هل تحدث إعلام الانقلاب عن هؤلاء الذين استقروا في قاع البحر غرقى وأمواتاً، يذكرني ذلك ببعض ما قاله الشاعر في قصيدته: ماذا أصابك يا وطن؟.

لا تتجه السياسات الانقلابية، في مشهد رابع وأخير، فحسب، إلى الداخل، فتستهين بالأنفس، وتستبيح الحرمات، ولكنها تنتقل من سياسة الداخل إلى سياسة الخارج، فتمارس عملاً شنيعاً في التواطؤ والحصار، ويُقتل المئات ويُصاب الآلاف، جرّاء عدوان همجي وحشي، ولا تقوم سلطات الانقلاب بتيسير المخارج، لكن الأمر بالنسبة إليها أشبه بنصب الأفخاح والمصائد، لا تقوم بأي عمل في إغاثة شعبٍ أو حياة إنسان. الإنسان هو إنسان غزة الذي انتهكت كل حقوقه في الحياة، حصاراً وقتلاً وإسعافاً وإغاثة، وكأن لسان حالهم يقول دعْه يُقتل دعْه يموت، ليعبر بذلك عن ديدَنِه في سياسةٍ واستراتيجيةٍ، تقوم على القتل واستباحة الدماء واستهانة بكل أصول الحياة.
 

  • شارك الخبر