hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - عبد اللطيف السعدون

مسيحيو الموصل في العاصفة

الأربعاء ١٥ تموز ٢٠١٤ - 07:50

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

العربي الجديد

كأنما كتب على العراق أن يواجه المصائب مجتمعاتٍ، وليس فرادى، هكذا كان قدره نحو قرن، ومنذ إنشاء دولته الحديثة عام 1921، وربما قبل ذلك أيضاً، آخر مصيبة تعرض لها ما فعلته داعش بمسيحيي الموصل الذين خيرهم "الخليفة" بين اعتناق الإسلام، أو دفع الجزية، أو الرحيل عن المدينة، أو مواجهة الموت، وهو بذلك لم ينصت الى صوت الله "أفأنت تكره الناس، حتى يكونوا مؤمنين".
وفي ليلة تاريخية فارقة، سوداء ومحتقنة بالدم، اجتاز حدود "ولاية نينوى" ألف وخمسمائة من سكانها، وقيل أكثر، مسجلين بذلك انتهاء حقبة طويلة تمتد ألفي عام من التعايش الحضاري والديني بين المسيحيين والمسلمين، تاركين وراءهم أكثر من ثلاثين كنيسة ودير ورهبانية، ومئات المنازل والمباني السكنية التي قال "الخليفة" إن ملكيتها ستؤول إلى "الدولة الاسلامية"، لتخصص لسكن جنود الدولة القادمين من خارج البلاد!
وفي هدأة الليل، استسلمت المدينة، وكتب أحد أبنائها على صفحته على "فيسبوك" "تحت فوهة السلاح، خمدت أصواتٌ كثيرة، أو التزمت الصمت، أو تحدثت همساً، فهاجس الموت يخيم على أبناء المدينة"، وبدأ المسيحيون في الرحيل، وهم يغالبون مخاوفهم، ويشدون على جراحهم، منتظرين أن يستيقظ ضمير العالم كي يسعفهم. وعند بوابات المدينة، لاحقتهم الوحوش، لتسرق ما حملوه من مال ومصوغات وهواتف ومقتنيات شخصية، كانوا أخذوها على سبيل الذكرى، وأملاً في عودةٍ ظنوها أقرب إليهم من حبل الوريد، فيما عادت الوحوش لتدمر كنائسهم وأماكن صلواتهم، في تجاهل تام ما كان أوصى به النبي محمد (ص) في عهد الأمان الذي أعطاه النصارى، في السنة السابعة للهجرة، "لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولاحبيس من صومعته" و"لا يهدم بيت من بيوت كنائسهم، وبيعهم، ولا يدخل شيء من بناء كنائسهم في بناء مسجد، ولا في منازل المسلمين، فمن فعل شيئاً من ذلك، فقد نكث عهد الله، وخالف رسوله"، ولما قاله عمر بن الخطاب عند دخوله القدس، "لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم".
كل هذا حدث، و"دولة القانون" لم تكن حاضرة لكي تحميهم، أو تدافع عنهم، كانت مشغولة في اقتسام غنائمها، وفي تجييش مليشياتها، لكي تضرب في مواقع أخرى، وكأن بينها وبين "داعش" حلفاً مقدساً غير منظور، هؤلاء يضربون هنا، وأولئك يضربون هناك، والهدف واحد، تهجير كل العراقيين، ليسهل بيع البلاد، كما باعوا ثرواتها، وآثارها، وثقافاتها، وتراثها إلى الأغراب.
هذا هو قدر العراق الذي كان "منار الشرق، وسرة الأرض وقلبها"، بحسب وصف المسعودي له، وهو، أيضاً، قدر الموصل عاصمة آشور، التي سكنتها عشتار، آلهة الجمال والحب، والتي لم تعد منذ وطأت أرضها داعش "موضع الوصل والعقد" بين المسلمين
"
كل هذا حدث، و"دولة القانون" لم تكن حاضرة لكي تحميهم، أو تدافع عنهم، كانت مشغولة في اقتسام غنائمها، وفي تجييش مليشياتها، لكي تضرب في مواقع أخرى، وكأن بينها وبين "داعش" حلفاً مقدساً غير منظور
"
والمسيحيين والسنة والشيعة والصابئة والأيزيديين والشبك والعرب والأكراد والتركمان وسواهم، وكفت عن التخاطب بغير لغة الدم، وأرغمت على نسيان رموز العلم والفلسفة والفكر والفن، حنين بن إسحاق وأفرام السرياني وإسحاق بن جبير وجرجيس الخياط والأب أنستاس الكرملي ورزوق غنام وتوفيق السمعاني والآباء الكرمليين وعيسى الصائغ ومجيب حسون وروفائيل بطي وبولينا حسون ومريم نرمة، وعشرات آخرين.
إنها العاصفة، إذن، تلك التي حذر من تبعاتها بطريرك الكلدان، روفائيل زاكو، حيت طلب من أتباعه أن يكونوا يقظين، وأن يعتمدوا العقلانية والفطنة، و"أن يحسبوا حساباتهم بشكل جيد، ويفهموا ما يخطط للمنطقة، ويتكاتفوا بالمحبة" و" أن يصبروا ويتحملوا ويصلوا، من أجل أن يعبروا العاصفة بسلام". ولنا أن نتساءل" هل ستبقى الموصل في عهدة شياطين داعش، ويبقى مسيحيوها مشردين في الصحراء، ولماذا لم يستطع أحد أن يتصدى لهم؟ لماذا لم يتمكن حلفاء داعش من أن يواجهوا الناس بحقيقة تحالفهم ومبرراته، قبل أن يتواروا عن المدينة؟ هل ثمة مسرحية تقنع الجميع بتأجيل الحساب إلى أن يحين قطف الثمار، ومن هم المخططون والممولون ومديرو الإنتاج؟
وبعد أن وقعت الواقعة، وأحكمت داعش قبضتها على الموصل، دعونا نبحث عن الرجال الذين يمتلكون الحل، والذين ينبغي أن يكونوا رجال حكمة ونزاهة وشجاعة وقدرة على الحسم، ولو كان ديوجين حيّاً لاستعرنا مصباحه في البحث عن هذا النمط من الرجال، لكن، يا لخيبة الأمل، فإن ديوجين مات قبل أكثر من ألفي عام، وتركنا وحدنا في عراء الصحراء. وليس لنا سوى أن نقرأ مقولة المطران اللبناني، جورج خضر "نحن المسيحيين لا نبقى مسيحيين إن لم نحب المسلمين، نكون خرجنا عن جوهر ديانتنا".
وداعش تفكر أن حب المسيحيين المسلمين هو حب من طرف واحد. ويا لبؤس التفكير!
 

  • شارك الخبر