hit counter script

مقالات مختارة - صقر أبو فخر

م. ت. ف ... أو منظمة التفكير في الفرار

الأربعاء ١٥ تموز ٢٠١٤ - 07:49

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

العربي الجديد

يقول توماس هوبز إن أي مجتمع قبل نشوء الدولة هو في حالة حرب: الجميع ضد الجميع. ثم تنشأ الدولة لتحتكر العنف، إما بتغلب جماعةٍ ما على الآخرين، أو باتفاق المتحاربين الذين وجدوا أن من الأفضل لهم تنظيم مصالحهم في دولةٍ يمنحونها سلطة قهرية عليهم جميعاً، على أن يكون اتفاقهم منصوصاً عليه في دستور دائم وثابت. غير أن لبنان، وهو دولة "حديثة" لم تكن موجودة قبل سنة 1920، هو البلد الوحيد على الأرجح، الذي يتم فيه خرق الدستور وتعطيل الدستور وتعديل الدستور وتجميد الدستور، وما زال الجميع فيه في حالة حرب. أَليست هذه هي حال المجتمعات ما قبل الدولة؟
كان نظام القائمقاميّتين في سنة 1841 أفضل تنظيم للحرب الدائمة بين الموارنة والدروز في جبل لبنان. لكن، اليوم، ثمة غابة من القائمقاميات: واحدة لسمير جعجع وواحدة لوليد جنبلاط وأخرى لنبيه بري وحزب الله، وواحدة لسعد الحريري، ومثلها لسليمان فرنجية، علاوة على مناطق للعشائر المسلحة التي تزرع المخدرات وتتحدى "الدولة"، وأخرى للعائلات التي تخصصت كل واحدة منها بمهنة: عائلة لسرقة السيارات، وعائلة لاختطاف الأشخاص وطلب الفدية، وعائلة للتهريب، وعائلة للسلاح... وهكذا. وفي هذا الميدان من المصالح المتعاكسة، يصبح تنظيم هذه الحروب، بصورة دائمة، أمراً صعباً للغاية. لبنان، إذاً، غابة؛ فهو "دولة" من دون رئيس، وله مجلس نيابي ممدد له، أي غير منتخب، وحكومة لا تجتمع إلا بالمصادفة وعند الضرورة. والمسلحون يسرحون ويمرحون في طول البلاد
"ليس من المستغرب أن يُستقبل القاتل الخارج من السجن بقرع أجراس الكنائس، أو بالحمل على الأكتاف والأعناق؛ فمجتمع ما قبل الدولة، حين يشعر بالخوف، يلتف حول أكثر رجاله قسوة ووحشية، لأنه يرى فيه القادر على الحماية"
وعرضها؛ يخطفون الناس ويقبضون الفدية. وجماعات تسطو على المصالح العامة، فتنهبها نهباً، وتستولي على أراضي الغير بالقوة القهرية. ومجموعات تزرع الأفيون والحشيش، وتصدره وتطالب بجعل هذه الزراعة قانونية. وشركات ومصارف تعتاش على تبييض الأموال، وعلى الثروات التي تتدفق عليها لتمويل المجموعات المسلحة التي بنت أعشاشها في مناطق مذهبية سافرة. وفي هذه الغابة الجميع يشكو مظلوميته.
* * *
كان لبنان قبل الحرب الأهلية (1975-1990) "ميداناً" لمظلومية الشيعة، فإذا به ينتقل، بعد اتفاق الطائف الذي أوقف الحرب في سنة 1989، إلى مظلومية المسيحيين (الإحباط المسيحي). أما اليوم فها هو منغمر في مظلومية السُنّة. الجديد هو أن التصادم المباشر بين المظلومية الشيعية، وهي قديمة وعقيدية ومكرورة ومملة، والمظلومية السنية التي تصاعدت بعد سقوط بغداد في 2003، أدى إلى اختمار بيئة أيديولوجية حاضنة، ساهمت بدورها، في انتشار "الجماعات الجهادية" الرثة والمروِّعة. ثم اندلعت معارك القصير والقلمون والست زينب في سورية، لتزيد النار أواراً. فلا عجب، في هذه الحال، أن يشتعل التطرف في المجتمع اللبناني المنقسم والمتكاره، وأن يتسيد السياسة فيه زعماء من أكثر مخلوقاته دموية، لأن الزعيم الأكثر دموية يُعدّ في نظر جماعته، الحامي من الأعداء. لذلك، ليس من المستغرب أن يُستقبَل القاتل الخارج من السجن بقرع أجراس الكنائس، أو بالحمل على الأكتاف والأعناق؛ فمجتمع ما قبل الدولة، حين يشعر بالخوف، يلتف حول أكثر رجاله قسوة ووحشية، لأنه يرى فيه القادر على الحماية. وبهذا المعنى، يتحول أحمد الأسير، على سبيل المثال، ومعه زعران الأحياء وقادة الميليشيات، إلى أبطال. وفي هذه الأحياء، تجند الجماعات السلفية الجديدة مقاتليها وانتحارييها وأنصارها.
* * *
في هذه المعمعة الهاذية والمفعمة برائحة البارود المذهبي، راحت جماعات سلفية لبنانية تسعى، بدأب، إلى تأمين دعم جماعات مماثلة لها في المخيمات الفلسطينية. وتترد، اليوم، أسماء فلسطينية كثيرة، مثل بلال بدر وهيثم الشعبي وأسامة الشهابي وتوفيق طه وزياد أبو النعاج ومحمد الدوخي (خردق)، كأشخاص لهم أصابع في الإرهاب الذي يضرب لبنان. وازدادت الشائعات كثيراً، بعد اعتقال نعيم عباس الذي كان له شأن مهم في تفخيخ سياراتٍ انفجرت في بعض الأحياء الشيعية. وجراء ذلك، راحت مشاعر معادية للفلسطينيين تسري في المناطق الشيعية. والواضح أن هناك من يجهد في إثارة الزوابع ضد المخيمات
الفلسطينية، وترويج الأكاذيب عن أنفاقٍ تربط المخيمات بعضها ببعض، وأن هذه الأنفاق ستُستخدم ضد حزب الله وحركة أمل في ما بعد. وعلى هذا المنوال، صار الفلسطيني في نظر شيعةٍ كثيرين سنياً، وكان، إلى وقت قريب، يُعد في نظر بعض اللبنانيين غريباً مسلحاً.
في هذا الميدان المحتدم بالخوف والريبة، هناك بؤر مهيأة لتنفجر فيها شرارة المواجهات المذهبية، مثل منطقة الطريق الجديدة – الغبيري، وفي جوار هذه البقعة، يقع مخيما برج البراجنة وشاتيلا. وهناك صيدا وحارة صيدا، وعلى تخومها، يقوم مخيم عين الحلوة. أما منطقة التبانة – جبل محسن فغير بعيد عنها مخيما البداوي ونهر البارد. ثم إن معظم المخيمات يقع في مناطق ذات غالبية شيعية، مثل الجليل والرشيدية والبرج الشمالي والبص وغيرها. فالمخيمات إذاً صارت في عين العاصفة. وعين العاصفة هي نشوء بنية تنظيميةٍ ولوجستيةٍ مشتركةٍ بين الجماعات السلفية، مثل جند الشام وفتح الإسلام، والجماعات القاعدية اللبنانية، مثل كتائب عبد الله عزام، بحيث تقدم الواحدة النجدة إلى الأخرى في ما لو اندلع قتال مذهبي يوماً ما.
من شأن ذلك أن يعرض الفلسطينيين في كل مكان من لبنان، ولا سيما في المخيمات، إلى مخاطر هائلة، كأن لا يكفيهم ما يجري بحقهم في غزة. وفي مواجهة هذه المخاطر المحدقة، يبدو أن الحكمة في اتخاذ القرار الذي يجنب المخيمات كارثة، غير متوفرة، وكذلك تبدو القدرة على تعطيل مفاعيل هذه المخاطر غير موجودة. وجرّاء غياب الحكمة وحضور العجز، صار الفلسطينيون في لبنان أعضاء في م. ت. ف. لكن م. ت. ف. هذه ما عادت تعني منظمة التحرير الفلسطينية بل "منظمة التفكير في الفرار" من هذا الجحيم الزاحف.
 

  • شارك الخبر