hit counter script
شريط الأحداث

دائرة بعبدا الحكومية... معاناة لا تنتهي

الجمعة ١٥ تموز ٢٠١٤ - 08:32

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

في الدوائر الحكومية في لبنان، فسادٌ «منظّم» ومشرّع. منذ لحظة دخوله إحدى هذه الدوائر التي يعمّ فيها الازدحام والفوضى، يُهان المواطن و»بتروح عليه»، خصوصاً إذا كان يجهل خفايا هذه الأماكن ويفتقد الخبرة في التعامل مع موظّفين مُرتَشين، يطالبون مع المطالبين بسلسلة الرتب والرواتب، فيما هم يكسبون أضعاف معاشاتهم نتيجة الرشاوى و»سرقة» أموال الشعب، بطريقة أو بأخرى.

يقضي المراجعون فترات طويلة يتنقّلون من «كاونتر» الى «كاونتر»، ومن طابق الى طابق، لإنجاز معاملاتهم. في وقت يتجنَّب المسؤول المعني في الدائرة الخروج من مكتبه لمراقبة سير وانتظام العمل في الأقسام والمكاتب، يُغلق بعض الموظفين «الكاونترات» في وجه المراجعين قرابة الساعة الواحدة والنصف ظهراً.

ويبدو أنّ «الشبيبة» أبرموا اتفاقاً سرّياً في ما بينهم على نمط الإغلاق المبكر، ضاربين عرض الحائط الدوام الرسمي (الثانية بعد الظهر قبل شهر رمضان). هذا فضلاً عن بطء الحركة الإدارية في الدائرة الذي يزيد كمية المعاملات وكلفتها والوقت المطلوب لإنجازها، على الرغم من فائض الموظفين و»عجقتهم» غير المبرّرة، نتيجةَ غياب التخطيط ونقص المهارات والخبرات.

وفي اليوم السادس...

توجّهنا الى دائرة مالية جبل لبنان يوم الاثنين في الثالث من حزيران الماضي، لإجراء المعاملات اللازمة لاستكمال تسجيل مؤسسة تجارية فردية، بعدما كنّا قصدنا الثلثاء في 27 أيار الماضي، مركز السجل التجاري المجاور للدائرة لأخذ الموافقة. ولأنَّ موظفي المالية كانوا مضربين عن العمل، لم نُنهِ المعاملات في اليوم نفسه.

صحيح أنّ الإضراب لم يدم أسبوعاً كاملاً في ذلك الوقت، إلّا أننا، لم نتمكّن من التوجّه الى بعبدا إلّا بعد مرور خمسة أيام. وفي اليوم السادس، وصلنا الى الماليّة. وبدأت المعاناة: يتذمّر موظف الدائرة في الطابق الثاني، وهو عليه وضع التأشيرة على معاملة المواطن المُراجع ثمّ الختم ليُذيّلها بتوقيعه الكريم ضمن سلسلة من الروتين المزعج القديم الذي لا جدوى منه!

هذا الموظف نادراً ما يواصل عمله لأكثر من عشر دقائق على رغم إنتظار المواطنين طوابير أمام مكتبه، فتراه يرمي قلمه ويغادر الغرفة هائماً على وجهه من غير تعليق، أو يجيب على هاتفه الخلوي بصوتٍ مرتفع عن مسائل تافهة مثيراً الغضب والقلق في نفوس المساكين الواقفين في إنتظاره، أو يأتي الساعي اليه يبلغه أنّ المدير يدعوه فوراً، فيسرع اليه.

وعندما يعود بعد فترة مُحّمَلاً برزمةٍ من مُعاملات «حبايب» المدير، ينشغل بها بكل هِمّة ونشاط ويُكملها على أحسن وجه ثم يأخذها شخصياً الى السيد المدير، لإثبات تفانيه وإخلاصه في حين يكون المدير قد أظهر للضيوف الذين يهتم لأمرهم أنه مسؤول مهم و»واصل».

عودوا غداً

في هذه الاثناء يكون الدوام قد أوشك على الإنتهاء، فيذهب «المُراجعون» الى البيت ولـ«يرجعوا» غداً أو بعد غد، هذا إن لم يعاود موظفو الدائرة المثابرون إضرابهم. ليس إعتباطاً أن يكون المواطنون «مُراجِعين»، إذ يجب أن «يرجعوا» في اليوم التالي، وإلّا تكون صفة «المُراجع» قد إنتَفت! على كل حال، الموظف هذا ليس حال نادرة، بل إنّ غالبية الموظفين والعاملين في هذه الدائرة وكل الدوائر الحكومية متشابهون، وهُم يعبّرون عن إستيائهم الاصطناعي وعدم رِضاهم المموّه عن مشكلاتهم الشخصية ويفجرونها في وجوه الناس.

إلّا أنّ هذا المشهد الروتيني لا يمثل المعاناة الحقيقية، فالآتي أعظم. بعد ثلاث ساعات أمضيناها من «كاونتر» الى آخر، كان لابد لنا من الانتقال إلى مبنى تابع لوزارة التربية التي تبعد شارعاً من الدائرة، سيراً، لدفع ما يتوجّب علينا من رسوم.

وبعد صعود ثلاثة طوابق على السلالم، والانتظار مجدداً في الصف، واجهنا صدمة وها هو الموظف المعني يعلمنا أنّ علينا دفع غرامة توازي 5 أضعاف القيمة المفروضة، والسبب؟ تأخّرنا عن استكمال إجراءات التسجيل يوماً واحداً، على اعتبار أنّ لدينا فقط 5 أيام لدفع التسجيل منذ اليوم الذي قدّمنا فيه الطلب إلى مركز السجل التجاري. ولكن... لماذا لَم نُبلّغ بذلك؟ لأنه أمر يُفترض أن يعرفه التاجر. وإذا لم يَكُن يُدركه يكون حظّه سيّئاً. خمسة أضعاف قيمة 750 ألف ليرة لبنانية، أي 4 ملايين ونصف المليون!

«السيستام» مشكلة؟

عدنا أدراجنا الى الطابق الثاني في مبنى المالية، حيث أبدت الموظفة أسفها الشديد لما حصل معنا، مؤكدة أنّ لا مجال أمامنا سوى دفع المبلغ المطلوب. سألناها عن إمكان مراجعة المسؤول في ادارة السجل التجاري، فأجابت: «لا جدوى من ذلك. فقد تمّ تسجيل تاريخ تقديم الطلب في «السيستام» (البرنامج على الكمبيوتر) ولا أحد يستطيع تغييره بعد الآن».لم تقنعنا الموظفة بما قالته، واعترضنا بشدّة على هذا الواقع غير المبرّر.

وبعدما ملّت من اعتراضاتنا، رافقتنا الى مكتب رئيس الدائرة، الذي أعرب بدوره عن أسفه الشديد لحالنا. ولأنّ علامات الخيبة والأسى كانت واضحة على وجوهنا، اقترح علينا التقدّم بطلب استرحام لدى أحد «الكاونترات»، ما يسمح لنا بالحصول على خفضٍ للغرامة بنسبة 80 في المئة، وهو ما يعادل القيمة المتوجّبة ضرب اثنين أي مليون ونصف مليون ليرة.

توجّهنا مُرغمين الى «الكاونتر» المشار إليه، فما كان من القيّم عليه إلّا أن طالبنا بتوقيع رئيس الدائرة على الملف قبل تسليمه إياه. وعدنا أدراجنا الى مكتب المسؤول الكبير ليستلم منّا الملف ويبلغنا أنه سيتّصل بنا بعد نحو الأسبوع، لإعطائنا الموافقة على الخفض... وذُهلنا لاحقاً عندما سمعنا أحد الموظفين الذي عرف ما عانيناه، يقول لنا: الله يسامحك، كان بإمكانك حلّ كل هذه البهدلة بـ»حلوينة» بسيطة للموظف».

غادرنا الدائرة بعد احتجازهم الملف. لا حول ولا قوة لنا... في انتظار اتصال منهم. مضت ثلاثة أسابيع والموظفون المحترمون مضرِبون عن العمل. وفي 19 حزيران، اتّصلت الموظفة نفسها لإبلاغنا أنّ الملف بات جاهزاً. في اليوم التالي، عدنا الى الطابق الثاني، حيث سلّمتنا الملف لنحمله من جديد الى مبنى التربية نفسه، ولكن هذه المرة، لمواجهة مسؤول في الطابق الرابع لإقرار الخفض قبل دفع المبلغ.

إلّا أنّ المسؤول لم يكن موجوداً، وعلى الأرجح أنه لن يأتي الى الدوام في اليوم التالي أي السبت. فما العمل؟ حاولنا جاهدين طلب عون الموظفين المجاورين، بلا جدوى. وقبيل مغادرتنا الطابق خائبين، بادرت إحداهنّ، بعدما أشفقت على حالنا، الى استدعاء موظفة موجودة في أحد المكاتب، سائلة إياها المساعدة.

وهذا ما حصل. لم تتردّد «فاعلة الخير» لنجدتنا، وبعدما أقرّت الخفض على «السيستام»، طلبت منا النزول الى الطابق الثالث للحصول على الفاتورة ودفع الرسوم. الموظفة التي كان من المفترض أن تطبع لنا الفاتورة، حوّلتنا الى موظف آخر، طبع الفاتورة ولكن من دون أن يلحظ الخفض. وعندما أعلمناه بحقنا بالخفض، أجاب: «يجب أن تدفعوا 4 ملايين ونصف مليون ليرة، فالفاتورة لا تلحظ أيّ خفض».

وكأنّه قُدّر لنا العذاب، صعدنا مجدداً الدرج والى الطابق الرابع لطلب النجدة. فما كان من الموظفة المعنيّة إلّا أن رافقتنا الى الطابق الثالث لتأكيد إقرار الخفض، طالبة إعادةَ طباعة الفاتورة وليس إلغاءها. وأخيراً حصلنا على الفاتورة مخفّضة. موظفو الصندوق موجودون في مكاتبهم ولكنهم أقفلوا صناديقهم، رافضين استقبال أيّ زبون. ولولا مساعدة الموظفة الخيّرة، ومَوْنتها على أحد هؤلاء، لكنّا غادرنا و»سلّتنا فاضية» وعاودنا الزيارة في اليوم التالي.

روتين قاتل

ولكنّ المشوار لم ينتهِ هنا. فبعد العودة الى الطابق الثاني في المالية والبحث مطوّلاً عن الموظفة التي تحجز ملفنا، من دون أن نجدها لأنها غادرت، تمكّنت زميلة لها من إيجاد ملفنا وتسليمنا إياه بعدما تأكدت من تسديدنا الرسوم.

المحطّة الأخيرة كانت في مركز السجل التجاري مجدداً للحصول على الإذن بمباشرة العمل، إلّا أنّ الدوام الرسمي قد انتهى، ما يستلزم عودتنا في اليوم التالي.

لم يستطع الموظف في مركز السجل التجاري إخفاء استغرابه وتعاطفه لدى قراءته على الملف تغريمنا بسبب التأخير، وكانت المفاجأة والصدمة عندما قال: «لماذا دفعتم هذا المبلغ؟ كان يُفترض بكم العودة الى هنا وطلب تغيير التاريخ بكل بساطة»، مبدياً استياءَه وقرفه من موظفي الدائرة الذين أجبرونا على دفع الغرامة من دون إعلامنا بإمكان إلغائها، مؤكداً أنه لو صُحِّح التاريخ لكان ذلك قانونياً.

الموقف نفسه تكرّر مع رئيسة القلم في السجل، التي سألت مراراً عن سبب عدم عودتنا للاستفسار عن الموضوع قبل دفع الغرامة، مؤكّدة أنّ «موظفي الدائرة يرسلون يومياً عدداً كبيراً من المواطنين لطلب تغيير التاريخ وإلغاء الغرامة المتوجّبة»، وهو الأمر الذي لم يحصل معنا، بل على العكس، شددوا على أنّ أحداً لا يستطيع إلغاء هذه الغرامة بعد تسجيلها في ما يسمّونه «السيستام».

رائحة الفساد

في هذا السياق، أبلغ إلينا أحد موظفي المالية رافضاً الكشف عن اسمه، أنّ «من مصلحة كل موظف تسجيل غرامات مالية بحق المواطنين، إذ إنّ القانون الساري ينصّ على «إلزامية اقتطاع نسبة من الغرامات التي تُحقّقها مديرية المالية العامة، على أن تُوزَّع هذه الاقتطاعات على الموظفين العاملين فيها. ويوزّع مجموع الغرامات المفروضة على الضرائب المباشرة والضرائب غير المباشرة والرسوم المماثلة لها على الشكل الآتي: 70 في المئة للخزينة، و30 في المئة للموظفين».

وكشف الموظف المذكور أنّ «سبب اعتراض موظفي المالية على مشروع قانون السلسلة يعود الى إلغاء ساعات العمل الاضافية، فضلاً عن إلغائه المخصَّصات ومن ضمنها حِصصهم من الغرامات التي توزّع عليهم على دفعتين سنويّاً، علماً أنّ المشترع كان سمح لهم بالحصول على نسبة من الغرامات بهدف إلغاء أحد أهم العوامل التي أعاقت التنمية والتقدم في بلادنا كالرشوة، والمحسوبية، واستغلال النفوذ، والواسطة، والمحاباة، وإساءة استخدام السلطة وغيرها.

وهو الأمر الذي لم يحصل. بل إنّ هؤلاء حوّلوا الأمر رشوة «مموّهة» من خلال تعقيد المعاملات وعدم إرشاد المواطن الى طريقة الإعفاء من الغرامات، بهدف غشّه وإلزامه دفع مبلغ بلا وجه حق».

في المحصّلة، هذا هو المناخ في الدوائر الرسمية. يدعو الى القرف، وإلى «عدائية» يشعر بها كلٌّ منّا تجاه موظف الدولة. ونحن قبل «السلسلة»، ندعوهم لأن يطهّروا الإدارة ويريحوا الناس، وبعد ذلك لكل حادثٍ حديث.

"الجمهورية - باسكال بطرس"

  • شارك الخبر