الاخبار
فعلها المياومون مجدداً، لكن هذه المرّة بحدة أكثر، وبصدى أبعد، فشغلوا البلد بعدما نجحوا في قطع الطريق الساحلية لساعات. رفضوا قرار صرفهم من شركة «KVA» الخاصة، بعدما خدموا لسنوات طوال في مؤسسة كهرباء لبنان، وذلك ضمن حفلة ابتزاز مارستها الشركة على ظهورهم. وزير العمل وعد بمحاسبة الشركة، والشركة تقول إن الدولة لم تف بوعدها، والمياومون يلبسون أكفانهم ويستعدون لمواجهة مفتوحة
مياومو كهرباء لبنان يرفضون «الموت» دون أن يصرخوا. مشهدهم عند مدخل بيروت الشمالي، أمس، كان كسراً لذاك الإحباط المستشري في نفوس المواطنين، وخاصة طبقة العمّال ــ الفقراء. ثلّة من المياومين، الذين كذبت عليهم الدولة كثيراً، بعد خدمة سنوات طوال، لتطردهم أخيراً شركة خاصة (KVA)، مخالفة بذلك «الاتفاق السياسي» الشهير. هم 62 مياوماً، ومعهم عدد من زملائهم المهددين أيضاً، وقفوا أمام مقر الشركة في الكرنتينا، قطعوا الكورنيش في الاتجاهين، اصطدموا مع القوى الأمنية، لم يخلوا الشارع على وعد تلقوه... ذلك لأنهم «رفضوا السكوت عن حقهم».
يقف لبنان مخّول، رئيس لجنة المياومين، وسط الشارع، صارخاً: «حياتنا أهم من الحكومة كلها. مستعد للموت برصاصة من قوى الأمن، من أجل حقي، وحياة أولادي لست أزايد». جاءه اتصال من وزير الداخلية، مروان شربل، فيما الاعتصام ينقل على الهواء مباشرة. شربل يريد أن يُعاد فتح الطريق، مع وعده بإيصال صوت المياومين، لكن مخّول يرفض: «يا معالي الوزير، يعزّ علينا أن نرفض لك طلبك، ولكن لقمة عيش أولادنا على المحك. اليوم غادرت المنزل وودعت زوجتي، وقد لبست كفني تحت ثيابي... لقد كذبت الدولة علينا وما عدنا نثق بكم».
المياومون يصفّقون، يهتفون، وأحدهم يقول: «نحن أهم من أحمد الأسير وسواه يا معالي الوزير، شرفوا انزلوا لعنا». يحصل تضارب بالأيدي بين المعتصمين والقوى الأمنية، يستخدم العناصر الأمنيون العنف ولا تُفتَح الطريق. المياوم بلال باجوق في قمة غضبه بعد التضارب مع الدرك، يأخذ الكلام ويقول: «ما يحصل هو ابتزاز بين رأسماليين على ظهرنا، شركة Kva تريد أن تبتز مؤسسة الكهرباء، لتحصيل المزيد من الأموال... نحن هنا كبش محرقة». يتصل وزير العمل سليم جريصاتي بالمعتصمين، ويطلب منهم تشكيل وفد للذهاب إليه في الوزارة، فيرفضون بداية، لتمر ساعات والشارع مقطوع من دون أن تقطع الوساطات، ليذهب أخيراً وفد من المياومين إلى مكتب جريصاتي.
ما قصة المياومين؟
قبل نحو سنة ونصف سنة، أقر مجلس النواب قانوناً من أجل تثبيت المياومين في مؤسسة كهرباء لبنان. لكن من الغرائب الدستورية أن هذا القانون لم يوقعه الرئيس نبيه بري. استُبدل به «اتفاق سياسي». آنذاك، أصرّ وزير الطاقة جبران باسيل، العام الماضي، على تلزيم شركات خاصة من «مقدمي الخدمات» في الكهرباء، وها هي النتيجة أمامنا اليوم. هذه نتيجة «عقود الشراكة مع القطاع الخاص» بأوضح صورها!
الاتفاق المذكور قام على بندين أساسيين: أولاً، أن تلتزم الشركات الخاصة (شركة KVA واحدة من ثلاثة) تشغيل المياومين لديها، بعدما كانوا يعملون في مؤسسة كهرباء لبنان، على أن تسجلهم في الضمان الاجتماعي. ثانياً، تجري وزارة الطاقة ومؤسسة الكهرباء مباراة محصورة لضم المياومين إلى ملاك المؤسسة. البند الثاني لم يحصل، فيما سرى الاتفاق على البند الأول، فأصبح المياومون في عهدة الشركات الخاصة، وتحت رحمتها، وها هي اليوم تطردهم. إذاً، النتيحة هي أن «الاتفاق السياسي» كأنه لم يكن. لكن لماذا، أصلاً، لم يطبق قانون التثبت الصادر عن الهيئة العامة في مجلس النواب، الذي كان سيغني الجميع عن الدخول في هذه المتاهة؟ من الأجوبة التي تُسمع: «عدم وجود توازن طائفي بين المياومين». حتماً ما من حجة أقبح ولا أسخف.
المياومون يتعرضون، منذ مدّة لا بأس بها، لمضايقات من الشركات التي التزمتهم. لكنهم كانوا يفضلون الصمت للحفاظ على لقمة عيشهم. لكن أن يصل الأمر إلى حد طردهم، فهذا يعني نزولهم إلى الشارع وافتراش الطرقات ورمي بطاقات الهوية اللبنانية أرضاً. أي خير في هوية لا تجلب سوى الذل والمهانة؟
فضيحة الابتزاز
ما حقيقة ما صرخ به المياومون لناحية ابتزاز بين «الكبار» على حسابهم؟ مصادر مسؤولة ومطلعة عن كثب على المجريات، تقول لـ«الأخبار» إن ما يحصل من شركة (KVA) هو «فعلاً حفلة ابتزاز. فأخيراً قدّمت الشركة فواتير بقيمة 37 مليون دولار لمؤسسة كهرباء لبنان لقبضها، وكان من ضمن هذه الفواتير مستحقات المياومين عن الأشهر الثلاثة التي أضربوا خلالها سابقاً، علماً أن هذا يخالف الاتفاق السياسي الذي حصل، والذي تضمن أن تتكفل الشركات الخاصة هي بدفع تلك المستحقات للمياومين». وبالمناسبة، قيمة هذه المستحقات لا تتعدى 7 ملايين دولار، فمن أين جاء رقم 37 مليون دولار؟ تذكر المصادر نفسها، لتتضح الصورة أكثر، أن الشركة تقدمت أيضاً من مؤسسة الكهرباء بفواتير عن أعمالها لعام 2013 بقيمة 11 مليون دولار. لكن بعد التدقيق، اتضح أن مستحقات الشركة التي تعترف بها المؤسسة هي 3 ملايين دولار فقط. لكن كيف يفسر المبلغ الباقي؟ إليكم بعض الأمثلة: الشركة وضعت في فواتير عنوان «هدايا» وتريد قبضها! بالتأكيد مؤسسة كهرباء لبنان لن تغطي هذا العنوان. أكثر من ذلك، بطبيعة العلاقة اليومية بين الشركة والمؤسسة، من الطبيعي أن يكون للأولى موظفون ينجزون المعاملات لدى الثانية. لكن في النهاية، هؤلاء يتبعون للشركة. لكن رغم ذلك تضم الـ«KVA» إلى فواتيرها «رواتب ومخصصات هؤلاء، وكأنهم يعملون لمؤسسة كهرباء لبنان، وبالتالي تريد الشركة أن تؤدي دور متعهد «عمالة» لمصلحة المؤسسة على غرار شركة «ترايكوم»... وعندما رفضت المؤسسة ذلك سحبت الشركة موظفيها، ما أدى إلى توقف جزء من العمل، وبالتالي يدفع المواطن العادي هنا ثمن هذه التجاذبات، فضلاً عن البازار المفتوح على ظهور المياومين».
المواجهة مفتوحة
بعد اجتماع وفد المياومين مع وزير العمل، عقد جريصاتي مؤتمراً صحافياً، أعرب فيه عن تضامنه مع المياومين، وقال: «إني أحذر شركة الـ kva من أن ثمة تفاهماً سياسياً كبيراً قد حصل في معرض مشروع القانون والعقود الخاصة مع شركات مقدمي الخدمات، ومع العمال اللبنانيين الذين التحقوا بهذه الشركات. لا يستطيع أحد الخروج عن هذا التفاهم، ولا سيما أنه يتعلق بحقوق عمالة لبنانية لا تزال تبحث عن سقف قانوني لها». وأضاف جريصاتي: «ستُستدعى الشركة إلى الاجتماع عند الثامنة من صباح غد (اليوم) في الوزارة للوقوف على أسباب الصرف ولاتخاذ الخطوات والتدابير التي يجب اتخاذها في حالة كهذه. إلا أن ذلك لا يمنع أن أدعو شركة الـ kva التي خالفت موجب التشاور وذهبت إلى صرف جماعي فيه كل أوجه التعسف، إلى العودة عن قرارها، وإعادة العمال المصروفين إلى العمل في الحالة التي كانوا عليها قبل التاسع من الحالي». وإزاء إعلام المياومين باستعدادهم لمواجهة مفتوحة في الشارع، وفي كل المناطق، إن لم يستجب لمطلبهم، أصدرت شركة «KVA» بياناً أوضحت فيه أنّ «عقد تقديم الخدمات الموقع بين مؤسسة كهرباء لبنان وشركة KVA بتاريخ 2 نيسان 2012 ينص في أحد بنوده على تحويل عدد من عمال غب الطلب - المياومين لدى مؤسسة كهرباء لبنان إلى شركة KVA، في ظل وعود من الجهات الرسمية المعنية بتسوية أوضاعهم واستعادة فائض أعدادهم من خلال إجراء مباريات تهدف إلى استرجاع عدد منهم إلى مؤسسة كهرباء لبنان، وبما أن ذلك لم يتم، أصبح وجود هذا الفائض من عمال غب الطلب - المياومين عبئاً كبيراً على المشروع، ما يعوق الشركة عن متابعة العمل وتحقيق أهداف المشروع».
هكذا، حفلة ابتزاز مخلوطة بعادة تقاذف المسؤوليات الشهيرة في لبنان، يدفع ثمنها المياومون، الفقراء، الذين دائماً في هذه البلاد يُسحقون تحت عجلات رؤوس الأموال - المحاصصة الطائفية.