hit counter script

مقالات مختارة - نسيم الخوري

مذكّرات رضيع نازح في خيمة لبنانية

الخميس ١٥ كانون الأول ٢٠١٣ - 07:34

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

"الخليج" الاماراتية

هذا حوار داخل الرحم بين توأمين: سالم الذي مات أثناء الولادة وشقيقه الرضيع عبدالله شارلي (9 أشهر) الذي نزح مع أمّه من سوريا الى لبنان، فمات في خيمة من الصقيع:
- هل هناك حياة بعد الولادة يا عبدالله . ما هذه الانفجارات والأصوات في الخارج؟
- حتماً هناك حياة . نحن الآن نعيش معاً في الرحم، نستمدّ القوة ونتحضّر لما ينتظرنا في الخارج بعد الولادة، تلك الأصوات هي ضجّة الدنيا .
- هذه تكهنات . يبدو أن لا شيء سوى الموت بعد الولادة إن حصلت . فماذا تعني لك الحياة خارج الرحم؟ ألا تخيفك هذه الأصوات؟
- هناك أمور كثيرة في العالم القادم، النور والفرح والحب، والكثير من التجارب الرائعة هناك . يكفيك أنّك ستأكل بواسطة الفم .
- لكن أنسيت أنّ لدينا حبل صرّة نحيا من خلاله وننمو، فكيف نأكل بفمنا؟ هل عاد أحد الى رحم أمّه وأخبر ماذا يحصل هناك بعد الولادة؟ لا تصدّق تلك الخيالات . فالحياة يا أخي قد تتوقّف ببساطة عند الخروج من هنا كما يبدو . لا شيء بعد الخروج من الرحم غير العذاب . يجب أن نتقبّل الواقع .
- لا أتّفق معك . صحيح أنني لا أعرف بالضبط شيئاً عن مخاطر تلك الحياة بعد الولادة، لكنّني أعتقد أننا سنرى أمّنا هناك، وهي التي ستعتني بنا وتحفظنا من الأذى .
- أمّنا؟ ماذا تقصد؟ هل تعتقد أنّ أمّاً تنتظرنا هناك من دون أن تراها؟ وإن وجدناها، كما تقول، فأين هي الآن؟
- إنّها في كلّ مكانٍ من حولنا . ألا تشعر بأنّنا نعيش فيها وننمو بصفوة جسدها، ولولاها لربّما ما كنّا هنا نتحاور .
- دعك من هذه التصوّرات . أنا عمري لم أر أمّاً، إذاً هي غير موجودة بالنسبة إلي .
- كلامك لا معنى له . ألا تلحظ أننا عندما نخلد ساكنين في الرحم، نسمع كلامها وأغنياتها ومن دون أن نراها نشعر بها تداعب عالمنا؟ إنني أتصور أنّ حياتنا الحقيقية ستبدأ بعد خروجنا من رحمها عند الولادة الى عالم جميل واسع ينتظرنا .
- ولكنني لم أشعر بالسكينة لحظةً واحدةً في رحمها يا عزيزي، وما هذه الأصوات القوية والصراخ والعويل والبكاء وعن أيّ أغنية تتكلّم؟
هذا حوار رمزي يطول فيتجاوز ما قيل وكتب في المواضيع الإنسانية منذ قايين وهابيل، وهو يدين الحروب والقتل والعنف، وكلّ ما يقال في حقوق الإنسان والعيش والحرية والديمقراطية والرخاء، وكلّ مصطلحات الغواية الشقراء المعلّقة كالمواشي المذبوحة فوق حبال التغيير والعروبة والثورات والتحولات والتحليلات والأخبار والحقائق والأكاذيب والشاشات الخادعة المستوردة . حوار أستلّه من الزرقة في شفتي الرضيع السوري عبدالله شارلي الذي وجدته والدته النازحة من حمص ميتاً في خيمة في بلدة الحريرية في منطقة البقاع بشرق لبنان . حاولت أن أنقل ما ارتسم فوق شفتيه المشقوقتين على الجوع تلهّفاً لنقطة حليب ساخنة فسقطت لغة الضاد التي بها نسكن ونصلي ونقاتل ونشتم . فلذت بصرخة أم مصطفى العزي النازحة السورية من حلب، التي صرخت، أمام خيمتها الممزّقة، بعدما اجتاحتها الأمطار في سهل بلدة "ابل السقي" في جنوب لبنان تحت وطأة عاصفة ثلجية وظروف مناخية قاسية: "ما أحلى الموت!" شقيقه مات عند الولادة وليته مات معه . ليتها لم تلده! كان يجب أن تلده، لكن ما كان يجب أن يموت الرضيع عبدالله .
ليتها لم تلده؟ هذا حوار أجنّة العرب في الأرحام لا في سوريا وحدها، بل في العواصم الثائرة التي يندى لثوراتها جبين السلطات، كما جبين الأمم المتّحدة والقوى الإقليمية والدولية، أقدمه هديّة العام الجديد تمطّ عنقها نحو فلسطين وبيت لحم والقدس وكلّ بيتٍ عربي، وبه أطمح أيضاً إلى زجر أصحاب النصوص الذين يملأون صفحات التواصل الاجتماعي بتعليقات لا يطيقها أو ينقلها حبر، تتهكّم على النازحين السوريين وتأخذ عليهم الإكثار من الولادات في الخيم وفوق الأرصفة الموحلة . صحيح أنّ ساكني هذه الجوزة الأرضيّة البائسة باتوا كتبةً ومصوّرين بعدما سقطت الكتابة عن ظهور الأحصنة، لكنّ كتاباتهم ترشح بالجمر وحفلات الرقص في النيران والساديّة، فيتصوّرون أنّ النفخ في الجمر يفضي الى رطوبة الرماد، لكنّه نفخ يحرق الشفاه والأجساد قبل أن يحطّ الجمر في برودة الرماد . وصحيح أنّ الكتابة في الكوارث هي مغامرة متردّدة بين الجمر والرماد، لكنّ أصعب التعبير وأخدعه عندما يقيم الجمر في رماد الخرائب، فكيف نرسم وجوهاً لنازحين يستعيضون عن الجمر بالموت؟ لو سأل أيّ كاتب الجمر: ماذا تريد؟ لأجاب بفرقعة صارخة مخيفة مثل شفتي الرضيع عبدالله شارلي: إنّ أقصى ما أطمح إليه هو الوصول الى برودة الرماد وهدأته . تتلوّى سوريا بين محبرة الجمر ومحبرة الرماد، لكنّ ترويض أقلامنا وألسنتنا ومواقفنا وفقاً لأبجدية الرضيع عبدالله الرمز ضرورة كي لا تبكي النصوص في المستقبل . ماذا ينتظر الكاتب من نازح داهمه الموت سوى التمسّك بالحياة ؟ ألا نرى أحياناً نبتةً تبزّ خضراء متحدّيةً اليباس في جدار سميك من الباطون المسلّح؟ تلك هي قوّة الحياة إذ يحاصرها الموت . هل نذكّر اللبنانيين الذين خرجوا من ملاجئ الحروب العبثية كيف فتحوا نوافذ حياتهم على المطاعم والملاهي والمراقص والحريّة بلا ألفٍ ولام؟ ألم يضحّي لبنان بمئات ألوف القتلى والجرحى والمعاقين لا للرقص العربي بل لكلمة واحدة في الدستور تشهد بأن الوطن عربي الهوية والانتماء؟ ما العلاقة بين الرقص والدم والموت سوى الأخوّة الطبيعية بين الشعوب التي ذاقت مرارات الحروب؟ هل نقرأ تاريخ الإسبانيين بعد أن وضعت الحروب الأهلية أوزارها؟ غالباً ما تتقدّم الغرائز العقل عندما يسكن الموت والقصف والعنف الديار عشوائياً، وهناك تلازم علمي بين العنف والحبّ وهما من أشدّ الغرائز المتنافرة لكنها الدعائية للسلوك لدى من يجتاحه الموت في أي لحظة . يكفي النبش في صفحات التواصل الاجتماعي عن الملاط الطبيعي بين المصطلح اليوناني Thanatos أي نزوة الموت في مقابل مصطلح Eros أي نزوة الحياة، الذي يؤكّد الطابع الجذري للثنائية بين الموت والحياة الى حدود إعطاء تلك الجدليّة المتداخلة معاني وأبعاداً أسطورية . لسنا أمام ظاهرة غير طبيعية، بل نحن أمام نتائج وتداعيات "مبدأ ما فوق اللذة" لا بمعناها الشعبي بل بمعنى التعادل بين الحب والخصام الذي فصّل فيه عالم النفس سيغموند فرويد في العام 1920 في الفصل السادس من كتابه بالعنوان نفسه .
حوار بين توأمين، مات الأوّل على باب الرحم، ومات الثاني بعد تسعة في برد الخيمة، كأنّ مشهد فلسطين يتنقّل مثل الدمغة فوق مدائن العرب، في زمنٍ حزين قد لا يشعر به كثر من أطفال الدنيا يلعبون حول صنوبرة العيد بإنتظار الهدايا، لكنّ بابا نويل ملفوف بالأسود هذا العام .

  • شارك الخبر