hit counter script

مقالات مختارة - سمير عطاالله

"غراد" خاص لرشّ الحدائق

الأربعاء ١٥ آب ٢٠١٣ - 08:46

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

النهار

المقال الحدثي يفرض موضوعه الحدث. ومنذ أـن شرعت في كتابة مقال الأربعاء أحاول، خجلاً منكم، البحث عن موضوع لا يكون عموده النكد وزاويته اليأس. وكم أكره أن أثقل على جنابكم. غير أنني أخجل أيضاً بالذهاب إلى المفاكهة والدعابة فيما يُكتَبُ التعليق السياسي بصواريخ "غراد". زينة الحدائق! كان في أيام شبابنا هنا "مونولوجيست" يدعى حسن المليجي، جاء من مصر وطابت له الإقامة والعمل على "مسرح فاروق"، في فروع ساحة البرج. غاب فغاب معه هذا النوع من الفن الذي لا يتطلّب لحناً جميلاً ولا مغنىً جميلاً ولا طرباً. وإنما هو رأي منفرد في أحوال الناس. هكذا هي "غراد". مونولوجيست. والحمد لله إنها بلا جوقة أو ردّ. ولا يُحمد على مكروه إلا رحمته. إذا كانت الحدائق تُحرث بالصواريخ فأين تعثر على موضوع غير ذي نكد؟ أريد أن أستأذنكم في إجازة لثلاثة أسابيع. ولا بد أن أبحث عن إيقاع غير مكفهرّ. لكن أين؟
في عملية التذكّر هذه تبيّن لي، لحسن الحظوظ العامة، أن قطع الدليل الذكري، ليس سابقة لبنانية على الإطلاق. حدث ذلك من قبل. إنما جانب السابقة في الموضوع هو أننا أصحاب أول قطع جماعي واحتفالي. أما القطع الفردي فلا، ثم لا. نحن شعب أبيّّ.
لا أعتقد أن أحداً منكم نسي حكاية جون واين بوبيت ولورينا غالو. هو، الزوج، من نيويورك، هي، الزوجة الملحمية (من ملحمة) من الإكوادور. هو، الزوج، جندي سابق في مُشاة وعُتاة المارينز، سائق تاكسي سابق، عامل بناء سابق وحارس ملهى حالي (1993). هي، خريجة جامعة كراكاس، فنزويلا، وتعمل مقلّمة أظافر في صالون حلاقة. احذروا الطلاء. التقليم قد يتعدّى الزنّار.
في ليلة من ليالي 1993 يعود جون واين إلى المنزل الزوجي قاصداً ما يقصده الأزواج، حيثما تيسّر. ولكن بموجب القانون الأميركي يحق للزوجة، الممانعة (كما في السياسة). مانعت لورينا فأصرّ جون واين. أصرّ جون واين فمانعت لورينا. فما كان من خريجة كراكاس إلا أن دخلت المطبخ وحملت سكين اللحمة وانقضّت على جون واين وهو نائم تقطيعاً في سلاح جريمة الاغتصاب.
ثم حملت السكين و"القطعة" وهربت. وبعد ميلين رمتهما حيث عثرت عليهما الشرطة. فالشاطر والمشطور والكامخ ليس بينهما. وشكراً لعلم الجراحة في أميركا، أعيد وصل القطعة المفصولة بالأصل المقطوع، في عملية دامت تسع ساعات ولكن بعد تصوير الدليل مقطوعاً لعرضه في المحكمة كدليل قاطع. والقاطع، هنا، بالمعنى القانوني، لا الملحمي. بالملحمي هو مقطوع.
ما الفارق الأساسي بين القطع الأميركي والقطع اللبناني؟ المؤامرة! عفوية الحزّ الفردي بسكين مطبخ، ومؤامرة الحزّ الجماعي بآلة لم تُعرض بعد على المحكمة. إذا انعقدت! الفارق الآخر هو ما يُعرف عندنا بـ"الفريق الثالث". في القطع الأميركي كان هناك رجل مارينز سابق قطّعته الإكوادورية الغاضبة، أما هنا، فإن "الفريق الثالث" منفّذ القطع، هو مجموعة بهيجة مبتهجة من الحرابقة البالغي الثقافة، الذين قرأوا المركي دو ساد قبل توجيه دعوة التكريم إلى العريس الذي صار لا عرس له.
لم يبلغ دو ساد هذا الحد. ففي كتاباته حرص على استبقاء صلة الوصل، لكي يظلّ الموضوع قائماً.
المشكلة معنوية أيضاً. فالذكورية، رمزاً أو صلباً، صنوّ الرجولة. والفحولة تاج الخصوبة. وقدَّرت العرب هذا الأمر تقديراً أعلى، فلم تقل من أجمل الشعر بل من فحول الشعراء والفحل رأس القطيع، بقرون أو من دونها. ولم يغيّر في الصورة أبدا أن يكون الأرنب هو الأكثر "تمريكاً" في العدّاد، من غير أن ينتبه حتى الآن إلى أحقيته في كتاب "غينيس" أسوة بصحون الحمّص وجاط التبولة وأطول شيش كباب.
للسيدة صباح آراء حصيفة في الرجال بحكم تعدّد الأزواج الذين تهافتوا على غرّيدة وادي شحرور وصبّوحة لبنان. وقد شاءت أن تكون كل علاقة ضمن قفص الشرعية. ومن أجمل لطائفها في التوصيف ما نُسب إليها من أن "اللي ما تجوزتشي رشدي أباظة ما تجوزتش". وفي الراحل شهادات أخرى في هذا المنحى، مع أن ثمة من يقول إن السمعة لرشدي والفعل لمحمد عبدالوهاب. ويسمّي زياد الرحباني هذا الجزء من الحياة "فرفطة بلح". على قوله في "بالنسبة لبكرا شو": "أنا شو بشتغل ولي؟ إيه أنا بفرفط بلح"! أو شيء من هذا.
قبل الذهاب في إجازة كلّفت نفسي مهمة كنت أعرف أنها مستحيلة: عقد نوع من الهدنة بين عدد من الزملاء والإدارة الأميركية، وخصوصاً بشخص رئيسها. عبثاً يحاول الزملاء إفهام أوباما ما يجب فعله. عبثاً، إفريقي عنيد. يا باراك، يا عزيزي، اسمع منا، باراك لا يسمع. يا باراك ألا تعرف مصلحة أميركا؟ باراك لا يعرف. يا باراك ألا تقرأ نصائحنا؟ لا يقرأ باراك. سوف أستأنف محاولة الصلحة بين الفريقين بعد الإجازة ولكن لن أهمل التفكير في الحلول خلالها. شيء يُقلق البال.
الحقيقة أن المشكلة بين الزملاء ورؤساء العالم، لا نهاية لها. أيام ديغول كان أحدهم على خلاف مع جنرال فرنسا. يكتب، يحنق، يحذِّر، يوجِّه، ينبّه الرأس العنيد إلى الأخطار التي تحيق بفرنسا بسبب عدائه لأميركا. لا حياة لمن تنادي. انتهت المسألة أخيراً باستقالة الرأس العنيد وبمقال مؤثّر للزميل العزيز من منزله في عين المريسة: ألم نقل لك؟ أعاد نشر أقواله (أي أقوال الزميل) لأنه يريد أن يمرّك على شارل كدليل على رجاحة فكره، تماماً كما عُرضت صور "مقطوع" جون واين بوبيت في محاكمة الإكوادورية لورينا غالو.
وما دمنا في رؤساء فرنسا فقبل سنوات اتصل بي زميل وسألني إن كنت أعرف أحداً في "الكوليج بروتستان". لأنه يريد أن يسجل ابنه فيها. قلت له إني لا أعرف ولكن اعطني يومين لأبحث عن صديق قد يعرف. اتصل بي في اليوم التالي قائلاً: "شكراً لا تعذّب نفسك. دبَّرنا الصبي"! قلت مبروك، من غير أن أسأل كيف تدبّر الصبي، إلا أنه أكمل "اتصل بي جاك وقال لا أقبل أن يبقى ابنك بلا مقعد في الكوليج".
من شدة غباوتي لم أسأل من هو جاك الذي اتصل بالزميل، لأن المهم عندي أن يتدبر الصبي. وقد تدبّر. وعاد الزميل يُكمل: "إذا بدّك شي من جاك، أخبرني أنا رايح باريس هاليومين". بكل براءة أو سذاجة أو حمرنة سألت "من هو جاك؟" قال وكأنه يتحدث عن جاره: "جاك شيراك". قلت "سلامتك. ولكن عندما تراه سلملي أيضاً على برناديت. زمان والله ما شفناها".
صحيح أنني لم أطمئن إلى مسار النزاع الحاد بين الزملاء والكيني العنيد، ولكن وسط كل هذا القلق ظهر مشهد يبعث على الطمأنينة الكبرى. صور الرئيس إميل لحود في سيارة "رولز" مكشوفة يتمتع بصيف لبنان. منعش ولذيذ وصيفي، المشهد. يزيد في أهميته الوطنية أن الرئيس الذي يجول الديار في سيارة مكشوفة طراز "رولز رويس"، رئيس استراتيجي وليس عادياً. لم يحمل رئيس غيره هذه الصفة. لو لم يكن مطمئناً إلى الوضع الاستراتيجي في الشرق الأوسط، لما اختار هذه الطريقة غير المباشرة في طمأنة الشعب. التجوّل بفخامة.
الرجل هو الأسلوب، قال بومارشيه. وكان لنا زميل يعرف فقط أن في فرنسا شيئاً يدعى جان - بول سارتر فكان ينسب إليه كل مثل سائر، ومنه هذا القول. ومن امتع ما يقرأ المرء سواء كانت النفس مرحة أو حزينة بما حولها، "سهرة الأمثال" لجورج شحاده. هل كان جورج شحاده بشراً أم أثيراً؟ قصيدة أم شاعراً؟ حبراً أم فراشة ألوان؟
تذكّرت "المسيو بوبل" وأنا أستعيد المستر جون واين بوبيت. فقط للتشابه في الألفاظ. لا أحد يشبه أشخاص جورج شحادة وعالمهم الذي كأنه أشجار تحت الندى في جميع الفصول وهذا لم يعد عالمنا، بل صار حيث تُزرع الحدائق بـ"الغراد"! كم تحوّل وكم تزول الأسماء العَلَم: بتروغراد ولينينغراد وستالينغراد! وحتى الإسكندرية مدينة العلوم والريادات الكبرى لم يبقَ لها الكثير من معاني الاسم، فيما يلمع في سماء العرب اسم تل رملي يُدعى دبي، كان بين الدخول فَحوْملِ، وصار بين نيويورك وسنغافورة.
حيث يعملون يفلحون. حي على الفلاح. بلاد الكسل تنتج الهوام والجوعى والمذلات والتظاهرات. أمة في العراء تصفّق، لقاتلها أو محرّرها. المهم أن تصفق. أما الإجازة، فتعبير قديم يُقصد به العطلة السنوية. كل معالمها ممنوعة. فالجمال لكي يغطى، والموسيقى ممنوعة، ولم تعد الورود تحمرّ كلما حضرتِ يا امرأة.
على الأقل عاش جيلنا جزءاً من عمره في زمن جورج شحادة. ليس كإنسان بل كفراشة تنثر الشعر ملوّناً في "أعالي التلال المملوءة بالغروب". وكان ضيفك يومها له الحق عليك في أن تحمي حياته ولو قاتلاً ابنك، وليس أن تدعوه لتنفّذ فيه الحكم الإكوادوري. وكانت الحدائق أن تغرس بياسمينة حدّها شجرة "بوصفير" من أجل عطرهما عندما يأتي المساء. ووردة جورية ربما، إذا اتسع الفناء الصغير.
ولم يكن من الضروري أن يكتب القصيدة صاحب الحديقة نفسه. ففي المساء كان العطر لجميع الجيران. وكان في إمكان أحدهم أن يستعير زهرة وحلماً قصيراً ويتخيًلها تقرأ رسالته ثم تدسّها في جيب مريولها. ولها شعر مرسل "حتى الينابيع".
لم تكن "قَصَّةْ الصبي" بعد قد وصلت المدينة، فلما وصلت وقد كبرنا جاءت صاحبتها إلى فؤاد كنعان في مكتبه فإذا الغواية ممكنة بلا ضفائر أيضاً، فقام إلى دفتره يكتب تلك الخاطرة البركانية "يا صبي يا أزعر يا لذيذ".
لم يجد فؤاد كنعان، وجوزف نجيم. وجميع من ورثوا الياس أبو شبكة في الفردوس إلا أفعى الإغواء الدائم اللهيب، حارقاً كالشعلة ثم مندثراً كالرماد.
إجازة، لماذا؟ لا لشيء إلا لقانون العمل. في الشباب كنا نتبادل المعلومات والعناوين حول أجود البضاعة وأرخص الأسعار! الآن نتبادل اختصاص المصحّات. ولم يعد السفر ضرورياً للجيل الطالع فذوات السلافية الجذور والشعر المذهّب هنَّ من يأتي إلى المعاملتين، ولا تغيير في المقاييس: أجود البضاعة وأرخص الأسعار ولا خوف من العقاب الإكوادوري. نحن مسافرون إلى النمسا لكي نعرف إذا كان الوجع ديسك أو لمباغو: فقرة ثالثة أو سادسة.
في الماضي كانت الصحافة تقوم على إبداع الفكاهة لا على الغمّ اليومي ورشّ الحدائق بصواريخ "غراد". وكانوا يمتّعون الناس بعبقريات ضاحكة هاذرة مهما كان الموضوع سياسياً: سعيد فريحة واسكندر الرياشي ورشدي المعلوف ومسماريات المهندس السابق جورج نقاش وإخوانيات عاصي الرحباني وجورج جرداق وعناوين لويس الحاج التي كالمسلاّت. اليوم الفرح ممنوع والهذر ليس من شيَم الرجال. أنجح تجارة في البلد أدوية المسكّنات. والبوتوكس لمن تريد أن تسمع ذلك الثناء الخالد: يخرب بيتك، أصغر من بنتك! وابنتها أصغر من بنتها. وكل صيف وأنتم بخير. وأيها القراء الأعزاء نرفع لكم شعار "سفن آب": تحبها تحبك... إلى اللقاء.
 

  • شارك الخبر