hit counter script

- رامي زين الدين

ليلة صيف رحبانية ووطن هجرنا من دون عودة!

الجمعة ١٥ تموز ٢٠١٣ - 15:07

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع
تعود بي الذاكرة عشر سنوات إلى سيارة التويوتا الرمادية والمشوار العائلي من الشوف إلى وسط مدينة بيروت. حينها كنتَ إذا أردتَ أن تستقلّ "سرفيس" تقول: "عَ وسط البلد" أو "عَ رياض الصلح"  وليس إلى الـ "Downtown" أو الـ "DT"! عندها كان وسط البلد مكاناً تجتمع فيه كافة الطبقات الإجتماعية ولم يكن حكراً على الأغنياء والماركات "الثقيلة"؛ ولن أدخل هنا في متاهة من فصّل البلد على قياسه ومن ألغى الترامواي سابقاً ثم فتك ببيوت "راس بيروت" القرميدية.. ببساطة أقيمُ المقارنة لأقول أنّه حينها كنا من "جماعة" وسط البلد، وكان أبي يُسمعنا مخزوناً رحبانياً طوال مِشوارنا في ظل امتعَاضنا منهُ لأن الموسيقى ما كانت تشبهنا ولم نشعُربالإنتماء لها، فـ جِيلنا هو جيل الـRap  والـ Trance والـ R&B! ولولا إصرار أبي وايقاظنا على الموسيقى الرحبانية بشكل دائم، ما كنت ميّزت اليومَ بين وطن الرحابنة ووطن السياسة والساسة. أنا "زمطت" ومن مرّوا بتجارب مشابهة أيضاً، لكن غيرنا الكثيرون من أبناء جيلنا، لم يَفعلوا، أو على الأقل هذا ما طننتهُ قبل "ليلة صيف رحبانية" حضرتُها في جبيل ورفيقة الدرب "رُوى سابا"، التي التَفَتُّ اليها أثناء أداء هبة طوجي لأغنية "كل يوم بقلك صباح الخير"، أغنية وطنية جديدة كتبها منصور الرحباني قبل وفاته، وخاطب بها لبنان الإنسان مصبحاً إياه تارة وسائلاً عن أحواله طوراً، في لحن أبدع أسامة الرحباني في صوغه. التفتُّ إلى رُوى، فرأيتها تمسح دموع عينيها على "وطن" هجرنا دون عودة! 
 الحفل مرّ عليه أسبوعاً كاملاً، ولم أكتب سابقاً لأن كتابتي ليست بهدف النقد أو  التغطية الصحفية، بل لتوثيق ليلة تاريخية تطلّبت مني التفرغ الفكري لها في ظل تخبطي بأكثر من عمل تلفزيوني. 
 إذن الحفل استقدم من أجله أسامة الرحباني الأوركيسترا السيمفونية الوطنية الأوكرانية وعدادها ما يقارب ثمانين عازفاً بقيادة المايسترو فلاديمير سيرنكو، ليتماشَوا مع توزيعه الجديد لمخزون رحباني، لم يُعد الحاضرون إلى ماض يتحسرون عليه فقط، بل جعلهم يحلمون برجوعه من جديد! الفرقة أوكرانية وما أدراك ما أوكرانيا! أوكرانيا التي اعترف لبنان باستقلالها في العام 1991 وأقيمت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين حينها، لينفتح لبنان على موسيقى وفن وثقافة أغنَتْهُ، واستطاع الرحابنة كما في كل شيء أن يغرِفوا من بحرها ما استطاعوا. 
 
بدأ الحفل. خمسة آلاف شخص وقفوا لنشيدنا الوطني كما الآليينَ من رئيس الجمهورية حتى أصغر الحضور سناً، غير مدركين أن الوطن الذي وقفوا له في حضرة الرحابنة هو غير ذاك المتواجد في كافة المناسبات الوطنية والسياسية والفنية. المسرح خلا من الديكور والرقص والأزياء ومن لعبةِ الإضاءة المعتادة واقتصر على جمال البحر يميناً والميناء المتلألئة يساراً، ما جعلها ليلة موسيقية غنائية بامتياز لكل مؤدّ فيها حرية تصويرها بلغة جسدٍ غابت عن الجميع واستقرّت في هبة طوجي دون سواها، فكان كل شيء يغنّي فيها من رأسها حتى أخمص قدميها. 
الربيرتوار الغنائي بدأ من مقدمة "سفر برلك"، أي فيلم الحرب الأولى عام 1966 وصولاً إلى "لا بداية ولا نهاية" عام 2012. نصف قرن تبدّلت اللعبة خلاله مئات المرات وتبدل معها اللاعبون: في الفن بين رحابنة قدامى ورحابنة جدد، وفي السياسة والأوطان بين معركة انتهت وأخرى بدأت، بين أتراكَ رحلوا ومرتزقَةٌ أتوا.. إلاّ السيناريو فهو واحد لم يتغيَّر.. سفر له بداية وليس له نهاية.. حرب بدأت ولن تنتهي! هذا أهم ما استخلصته من ليلة الصيف الرحبانية تلك، وغريب كيف يؤرخ الفن التاريخ السياسي بسهولة تامة في زمن يتخابط فيه الأساتذة السياسيون على إقرار كتاب تاريخ موحّد.
بالعودة إلى الحفل، أبدأ من الغناء المنفرد والأصوات الذكورية: غسان صليبا أولاً.. هو افتتح الليلة الرحبانية.. دخل، وقف، غنى، تألّق و"نقطة عالسطر". وأنا فرحتُ بالبداية الموفّقة لكن لم أر في إطلالته الأولى أكثر من ذلك.. دخل الفرسان الثلاثة سيمون عبيد، نادر خوري، وإيلي خياط كلٌّ في مكانه ودوره.. كان لأدائهم طعم مختلف وحافظوا على حضور لابأس به، وأنوّه بأداء سيمون عبيد بشكل خاص، إلا أن الفرسان مرّوا دون أن يبصموا، إذ لم يستوقفوني مرّة. معهم إستمتعت بالأغنيات وليس بمن يغنّيها! أما إطلالات غسان صليبا الأخرى، فأتت بين الفارس والآخر وهنا اختلف انطباعي. رأيت كيف تتبدل طاقة المسرح معه كما مع هبة طوجي- والكلام عنها لاحقاً. تتبدل الطاقة على المسرح ويختلفُ هتاف الجمهور وتفاعله. غسان كالملك لا يدخل دون أن تشعر بوطأة قدميه، والتقدم في السن زاده هيبة وحضوراً ونُضْجاً وأصبح كما نقول في يومياتنا "جغل" في وقفته، نظراته، وحركة يديه. كان حتماً الأكثر جماهيرية مع أغنيات الثورة التي أداها وكان في القمة عند غنائه "لمعت أبواق الثورة" وما تحملهُ هذه الأغنية من معنى عند أجيال مختلفة، سمعَتْها في في أكثر من حقبة، وما زالت لغاية اليوم لا تشعر باستقلالها، لا تشعر بخلاصها، لا تشعر بالنصر على أعداء الإنسانية. هذا الشعور المكبوت في داخل كل لبناني حضر الحفل، كان كفيلاً بهتافات لم تتوقف مطالبة بسماع الأغنية من جديد، الأمر الذي لم يحبّذ حدوثة أسامة الرحباني بدايةً ربما لأسباب معينة تتعلق بأصول المسرح وتعديل البرنامج، إلا أن إصرار غسان والجمهور انتصرَ وكان لهم ما أرادوا..  عذراً أسامة، لأننا تغلّبنا على منطقك هنا، من الرائع أن ننتصر للجمال، للمزيد منه، ولو بعد حين!
 
أتابع مع رونزا، وتاريخها على المسرح الرحباني يحكي عنها وعن سطوع صوتها وخصوصيته. كانت جميلة، أنيقة، خفيفة الظل، وتقنية بامتياز. مأخذي الوحيد عليها أنها كانت "نَيَّة"- عاللبناني، فهي في الليلة التي شاهدتها فيها لم تكُن على الطاقة نفسها التي لمسناها لدى الجميع بمن فيهم الكورال الذي تألق.
أصل إلى هبة طوجي وماذا أقول فيها؟! بم أحدّثكم عنها؟! لأول مرة أكتب نقداً في أحدهم وأتمنى لو تستطيعون مشاهدة الحدث وقراءة الآتي بالوقت نفسه، إذ أعجز عن التصوير في الكتابة.. هبة حتماً ودون منازع بدت أكثرهم خبرة في المسرح ومتطلباته، وكأنها أقدم مَن عمل مع الرحابنة وليس أحدثهم. ولأسامة فضل كبير في صقلها دون شك، إلا أن موهبتها وشخصيتها الطاغية على المسرح لها أسباب أخرى. لا ترى فناناً على شكل هبة طوجي، أي في هذا النضج الفني دون أن يترافق ذلك مع نضج فكريّ وميثودولوجيا مختلفة عن التفكير الوسطي لدى الناس وبالتالي نضج في الشخصية والتعاطي على المسرح. هي لا تغني، هي تسكُنُكَ! تفرحُ لفرحها وتتألم لوجعها في الغناء. في الحفل حلّقت وطارت وصوّرت الموسيقى، لوّنَتها كمَن يرسمُ على الهواء، فخرجنا من الحفل وبقايا الطلاء على أرواحنا وأجسادنا! لأول مرة أرى الوطن على هيئة إنسان مع "كل يوم بقلك صباح الخير"، ولأول مرة أشعر بطمأنينة عينيها عندما قالت "يا وطني بعيوني بحميك".. في "يا حجل صنين" قالت أوفَها بنعومة الحجل وعذوبة المياه. في "لا بداية ولا نهاية" تبدّلت وجوه الحاضرين. هي كانت تغني، لا بل تصدح والأفواه كلها كانت مفتوحة إعجاباً بها وعجباً منها، لذا حتماً لا عجب من وقوف فنانة بحجم ماجدة الرومي تحية وتقديراً لموهبة هبة! هي مزيج من شخصيات تظهر في مكانها المناسب وفي التوقيت الأنسب. "لازم غيّر النظام" انطلقت كالعادة على وقع أنامل أسامة عزفاً. المقدمة الموسيقية في هذه الأغنية بالتحديد تتكلم وتنطق بيومياتنا، فكيف بوقع الكلمات التي اصطفت كتابة وتشكّلت إلقاءً معها. كل ما غنّتهُ كان جميلاً لكن الأجمل دون منازع كان أداؤها لأغنية "إيماني ساطع" وهنَا أعجز فعلياً عن تصوير حركةِ جسدها. كان الغناء يبدأ من حنجرتها، يسري في دمها، ثم يخرج من أعلى كتفها، فتنتفض ذراعها وتستقر الكلمة على أطراف أصابعها لتعود دورة جديدة في لحظات سريعة، وأنت تتلقف الجرعات واحدة تلو الأخرى! الكلام عنها يطول ويطول، وإيماني كبير بأنها ستسطِّرُ التاريخ وستلعب دوراً هامّاً في استقطاب الفئات العمرية الجديدة إلى الفن الرحباني والوقت كفيل بذلك. 
لن أتحدث مطولاً عن غدي ومروان في هذا الحفل بالتحديد، إذ لم يصلني دورهما الفعلي، ولا أعرفهما على المستويين الشخصي والفكري كثيراً، أو بالأحرى أعرف ما أقرأه وأسمعه عنهما. ثقتي كاملة بأهمية وجودهما في أي عمل رحباني، ولو كان ظرف الكتابة عن مسرحية رحبانية أخرجَها مروان أو شعر كتبه غدي، لطال الكلام كثيراً. ولن يمرّ وقتٌ طويل على مقالة أتناولهما فيها بعد أن أغتني بدراستهما. لذا وقفتي الأخيرة هي مع أسامة الرحباني.. لم تشأ عيناي مفارقة أنامله التي لم تنفك عن قصِّ الحكايات. هو والبيانو صنوان لا يفترقان. هو في لبنان الرحابنة تماماً كما رجل الدولة. فيه من الفكر والذكاء والقوة والإبداع ما يملأ الدنيا. لم أميّز بين اللحظات التي تناغم فيها مع مفاتيح البيانو وتلك التي كانت فيها أذناه رقيباً على أصوات المنشدين. الأغنيات حضر فيها توزيعٌ جديدٌ تنطلق فيه النغمة من أقصى يمين المسرح، تجول الثمانين عازفاً، لتلتقطها أذنُك في أقصى اليسار. توزيع موسيقي أقل ما يقال فيه أنه عبقري، جمع "الدربكة" والكمان في انصهار فظيع، وكان توزيعاً أقرب إلى إفراغ أحاسيس وصلت إلى قمتها في "كان عنا طاحون". ممتعة،جميلة، مضحكة، مبكية، مدعاة فخر هي تلك اللحظات السريعة التي وقف فيها عن كرسيه أثناء عزفه "زيّنوا الساحة" ليدبك بكل جوارحه ويُرقصِ الحاضرين معه في لبنانه الجميل. لم أعاصر عاصي الرحباني، عاصرت القليل من منصور، والدنيا لا تسعني فخراً بفرصة حياة أمكنني فيها معاصرة أسامة الرحباني موسيقياً وفكرياً.
الحفل ختمه غدي على أمل وطنٍ يختاره الشعب، وطنٌ هجرنا وتركَ لنا بلداً سائبة، فمن أين نأتي به من جديد وشعبُنا تجذرت فيه التبعية ونخرت عظامه وستبقى معه حتى لا نهاية.. 
أبكي على ليلة شعرت فيه بانتمائي إلى وطن، وعلى ليالٍ آتية وأنا فيها مشرد لا أنتمي إلى مكان!
  • شارك الخبر