hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - أحمد محسن

عين الرمانة: الحرب في مكان آخر

الأربعاء ١٥ تموز ٢٠١٣ - 08:40

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

الاخبار

كأن الحرب قنّاص اصطاد عين الرمانة فجرحت. الشارع الذي صار «قلعة الصمود» قاوم كل شيء. «الغرباء» في اعتقاد أهله، «الاحتلال السوري»، والضائقة المعيشيّة لاحقاً. قاومت عين الرمانة «البوسطة» بالتفاهم، وإن ترك آثاراً إيجابية، لكنه لا يزال «سياسياً»، لا يستطيع، ربما، ولو بعد مئة عام، أن يغيّر ثقافة الشارع المتحرر حتى من «سطوة» أحزابه على صورته. عين الرمانة لم تعد إسبارطة، وإن كانت ذاكرتها لا تعترف إلا بالمقاتلين


كارثة عين الرمانة هي كارثتنا جميعاً. البوسطة ما غيرها. لعنة الاسم تلاحقنا من بعيد وتلتصق بعين الرمانة المسكينة. ولعل الأخيرة هي أول من تخلى عن هذه التوأمة مع الحادثة الشهيرة، غير أنها لم تنجُ من لعنة «التكريس اللفظي» للفاجعة. لم تتغير معالم المنطقة أو تسحق تماماً كما حلّ في «وسط بيروت»، مثلاً، كي تستبدل اللعنة بأخرى.

في «حرب السنتين» دخلت المنطقة في حروب أكبر منها، وحوّلت شارع العريض إلى «جبهة»، وصارت لـ«المراية» (المرآة) التي يستخدمها سائقو البوسطات اللطفاء في أحياء عين الرمانة قصة. تلك أحياء كانت جميلة، وكانت فيها أشجار تصلها بفرن الشباك وبدارو. اختفت «المراية» واستبدلت، بعد معركة ضارية، بتمثال متروك برهافة في حيّ صار يعرف بـ«مزار سيدة المراية». تمثال رقيق يشي بودٍّ لا سجال فيه.

اسبارطة المجتمع المسيحي


لا يرغب سكان عين الرمانة بالنوم مجدداً تحت الأنقاض (هيثم الموسوي)
سكان الأحياء أغلبهم «صامدون» على كل شيء تقريباً: أدبياتهم، مصطلحاتهم، غير أنهم قذفوا الرغبات العنيفة، وكفى الله المسيحيين شرّ القتال. يعتقد أهل المنطقة أن العذراء صلّت لأجلهم وحمتهم من الغزو. عاد الغزو ووقع أكثر من مرة في السبعينيات، ولكنه فشل. لم تسقط عين الرمانة، وعزز هذا التصاقها بالبوسطة. ارتفع الاسم، اسم المنطقة، فوق كل الذين مرّوا فيها. والذي يقول إنه من عين الرمانة يقولها بفخر. عين الرمانة «اسبارطة» ما يسمى «المجتمعَ المسيحي اللبناني». واسم اسبارطة اليونانيّة الحربي أشد وقعاً من جميع المقاتلين والعاديين فيها. وكذلك عين الرمانة التي أضافت إلى سكانها «حادثة» الانتماء إليه في «لحظة تاريخيّة»، وأضافوا إليها مواقف من حيواتهم. النائب أنطوان غانم، قائد الكتائب خلال الحرب، والمغدور في عبوة ناسفة خلال فترة الاغتيالات (بعد 2005). الروائي اللبناني أمين معلوف الذي عاد من تغطية «السلام» في سايغون ليجد منزله المحاذي لعين الرمانة يتحول إلى بقعة خطرة في سايغون الجديدة. ليندا جنبلاط، شقيقة كمال جنبلاط، التي رفضت الخروج، حتى بعد قرار «الحركة الوطنيّة» الشهير: «عزل الكتائب»، قتلت في منزلها وتنصّل الجميع من المسؤولية. كان هذا دارجاً، وكذلك اليوم. التنصّل من المسؤوليّة. حتى إن عين الرمانة أكبر من أحزاب بادرت للقتال واندثرت، تقريباً، كحزب الوطنيين الأحرار. يبدو لافتاً أن للحزب حضوراً في المنطقة، وهو المطمور إعلامياً، حاله من حال رئيسه دوري شمعون. يحبّون داني و«النمور». كان للنمور حاجز شهير قرب «محمصة صنين». اسمها على اسم الجبل العملاق، وأسهم هذا في إضافة شيء من «البطولة» إلى المقاتلين القدامى. ويحبّون غانم أيضاً، ويذكرون مآثره. ذات يوم هجم المسلحون على سيارة إسعاف، فأنقذ الجريح الذي كان داخلها. وذات مساء، خرج جيران غانم، وألقوا عليه سلاماً أخيراً في حيّ واسع يتفرع من «الشارع العريض». أخذ غانم معه قصصاً كثيرة، حاله حال مقاتلين كثر، هاجروا بعد الحرب واستحموا من الحرب الأهليّة.

«شارلي شك بوينت»

اختفت مرآة البوسطات، عين الرمانة صارت المرآة. مرآة للعموم. ينظر فيها أهلها فيرون صورهم بثياب زيتية وبنادق آلية وأحياناً أقنعة تخفي وجوهاً نادمة وأخرى حاقدة. تنظر إليها المباني المرممة فتبدو الأنقاض. ينظر إليها «الغرباء» ويبتسمون. لقد انتهت تلك الحرب، وإن كان من «حنين» فهو للسبعينيات. لتلك الصور القديمة المعلقة في متاجر عين الرمانة الصغيرة. صور بالأبيض والأسود، أحياناً لبشير الجميّل بسالفين طويلين، أو لآباء بشعرٍ على موضة ذلك الزمن، يرتدون القمصان الضيقة بالأكمام القصيرة، والسراويل الواسعة في آخرها. إن كان من حنين فهو لألوان عين الرمانة، ولسيارة الـ«فولزفاغن»، التي كان سكان المنطقة يصفونها بـ«سيارة الزعران». ليس هناك أي «حنين» للمحاور. لقد انتهت الحرب وعين الرمانة تمرّ في رأس مقاتليها القديمة صورة بالأبيض والأسود، غبّرها الرحيل. على سهل رحب تستريح عين الرمانة بلا فوارق مع الشياح. أعلام بيضاء هنا وخضراء هنا. تودي الأولى إلى فرن الشباك والأشرفيّة شرقاً، والثاني يتصل بالغبيري وعمق الضاحية الجنوبية. وبينهما نقطة فاصلة للجيش اللبناني كما لو أنها «شارلي شك بوينت» التي شيّدها الأميركيون في برلين الغربيّة. ما زالت النقطة في برلين بمثابة الترف الذي يتبع الحروب، أو الاحتفاء بالقضاء عليها. طبعاً نقطة الجيش ليست ترفاً، ولكنها نقطة «هدوء نسبي». صارت ثابتة بعد «غزوة الأشرفيّة» ولا أحد يفهم لماذا في ذلك التوقيت بالذات. سقط جدار ــ طريق صيدا القديمة، وإن كانت بعض المناوشات قد حدثت خلال الأعوام القليلة الماضية وذهب ضحيتها بلال سيف الدين الذي كان يغلق محله التجاري، فطالته رصاصة احتفال بخروج قائد القوات اللبنانيّة من السجن، وطوني أبو خاطر من عين الرمانة، الذي كان في طريقه إلى منزله حين تعارك بعض الشبان بسبب «البينغو» ولم يجدوا سوى قلبه في طريقهم. في المحصلة، أزيلت المتاريس حتى من القلوب. ولا جدوى من تقفي آثار حرب بين الطرفين. يمر العابرون إلى الضفتين بالحافلة رقم 4، ويتسوّقون من «بيروت مول». يذهب شباب الشياح لشراء الكحول من عين الرمانة، وبعد «التفاهم» يأتي شباب من عين الرمانة إلى الضاحية. لم يصبحوا شعباً واحداً، بثقافة واحدة، ولكن، ثمة تحسن طفيف. «حيّد» التفاهم المنطقة عن «السابع من أيار»، ولم تمرّ «بوسطة» جديدة من هناك. يُحكى عن «إعادة هيكلة» للقوات في المنطقة، ولكنه يبقى كلاماً لا تؤكده المصادر الأمنيّة ولا تنفيه. يوم قتل أبو خاطر، العوني، ظهرت القوات عسكرياً وانتشر عناصرها في الشوارع كما في 1975. وتمترسوا. قبل الحرب بسنوات قليلة كانوا يتحصنون بمحال «البلياردو» و«الفليبرز» قبل أن يضعوا الأقنعة إعلاناً منهم لبداية الحرب الطويلة. واليوم، قد يظهرون أحياناً بثيابهم الحربيّة وأحذيتهم الضخمة، لكنهم لم يحملوا السلاح. والسكان، أنفسهم، الذين انتصبوا من بين الأنقاض لمحاربة الجيش السوري في 1978، بعد «حصار عين الرمانة»، وحرب «المئة اليوم»، لا يرغبون بتكرار الحادثة. لا يرغبون بالنوم تحت الأنقاض. هكذا يسكن عين الرمانة اليوم، سكان أصليّون يستطيع الباحث تمييزهم بسهولة، وبوهيميّون وجدوا في المنطقة بيئة «تقبل التحرر»، إضافة إلى عدد لا بأس به من السكان المسلمين، الذين خرجوا من الحرب. بعض هؤلاء لا يكترث بأن يسكن في منزل يواجهه جدار عليه صليب مشطوب. يقول ساكن من هؤلاء، إنه في أحاديث مع جيرانه القواتيين، يجتمعون على «الضائقة الاقتصادية»، وعلى «الخوف من الأصوليّة». ليس في المشتركات ما يفرح، وإن كان خوف الجماعات من خيالاتها مفهوماً في لبنان.

نضال ما بعد الوصاية السورية

يصمت قليلاً ليوضّب أسماء المهاجرين في باقة. ثم يفتتها اسماً اسماً. مارون وإيلي وعماد والآخرون. يُخرج أسماءهم من ذاكرته ثم يعيدها إلى مكان عميق هناك. كمقاوم حقيقي يتذكر وديع «أيام النضال». يروي، بزهو، قصصاً شبيهة بتلك التي يرويها طلاب «رو هوفلان». يستخف كثيرون بالرفض الذي كان قائماً للوجود السوري في لبنان، لكن وديع يقول ما يقوله بشغفٍ لا يترك أي مجال للشك. يعرفون الأزقة معرفة حميميّة؛ إذ تقفوا آثار الأسلاف ببراعة: «المقاومة المسيحيّة». كان شعاراً غير معلن، بعد فترة «الإحباط المسيحي» على المستوى السياسي الظاهر. في عين الرمانة خرج هؤلاء ليقولوا «لا». وإن كانت أدوات حربهم متواضعة، واقتصرت على علم هنا، وشعار يحفرونه «خلسةً» على حائط، فإنهم قاوموا. يعتقد وديع أن عين الرمانة لم تتحول إلى «عبرا جديدة» بسبب هذه المقاومة. الثلاثيني ساخط على «14 آذار»، وهو ساخط أساساً على «8 آذار». يسأل أين كانوا قبل 2005 «عندما كان الاحتلال السوري». والرجل محقّ في أسئلته. جزء منهم شارك في ذلك الاحتلال وجزء آخر كان محبطاً، أي لا يحق له «أن يتسلق أكتافنا». الحاضرون من حيوات سابقة يطبعون يومياته. أولئك الذين تركوا وظائفهم والتحقوا بالأحزاب المتوافرة آنذاك. كان هناك «معمل الريحة». قريبه سقط هناك بقذيفة «غريبة». وأقرباء رفاقه سقطوا في قذائف «صديقة» على محاور كثيرة. وإذا أردنا سرد تلك المحاور، ونقاط المواجهة في عين الرمانة، ستبدو الأخيرة أقرب إلى ستالينغراد منها إلى شارع ضخم في الضاحية الشرقية لشبه مدينة أصلاً هي بيروت. سيدة اللورد، محمصة صنين، المازدا، كاليري زعتر، حارة المجادلة، محطة نعمة، الداتسون، مستديرة البريد. والنقطة الأخيرة كانت لاهبة. أما النقاط الأخيرة، فيعرفها الجميع. تقريباً الجميع؛ إذ إن من بقي من سكانها الأصليين يصعب إحصاؤه. يعتقد مسنّ في المنطقة أن شارع المراية حالياً، معظمه من السكان الأوائل الذين هطلت عليهم الصواريخ، وقاتل آباؤهم تحت الردم، أما الشوارع المتاخمة للشياح، عبر طريق صيدا القديمة، فشهدت نزوحاً من «الجيران» كذلك الذي شهدته أواسط ستينيات القرن الماضي، قبل أن تضل البلاد طريقها، وتكون داخل البوسطة التي مرت في شارع مار مارون. كائناً من كان جوزيف أبو عاصي، الذي سقط في ذلك اليوم، أثناء افتتاح الكنيسة، فإنه الشهيد الأول. واكتشف الجميع، في عين الرمانة أيضاً، أنها حرب خاسرة. رغم ذلك، سيموت جوزيف أبو عاصي جديد. في عين الرمانة يشعرون بالذعر من «الأحداث في سوريا».

تراجع الطبقة الوسطى

في ما مضى حارب أهل عين الرمانة جيشاً قتلوا منه وقتل منهم. وفي التسعينيات خاض شبانها معارك كافية كي يقلدوا بأوسمة ما بعد الحرب. غير أنها حرب مجانيّة كمعظم الحروب، وغالب ما حصل عليه «الرفاق» كتعويض على النجاة، هو «فيزا» إلى فرنسا أو إلى الولايات المتحدة. هذا ما يبحثون عنه حتى بعد انتهاء الحرب. خلال فترة «الوصاية» في عين الرمانة كانوا من طبقة أقل اقتصادياً. أنزلتهم الحرب من «الوسط» إلى «الأدنى». يعيشون بكرامة ويشربون العرق يوم الأحد كما يخرجون للفرح كلما تسنى لهم ذلك، إلا أنها عين الرمانة. المنطقة التي كانت بساتين جذبت «حديثي النعمة» قبل الحرب، حين هاج الباطون بعد «ثورة 1958»، وحلّت عليهم لعنات الحرب التي تناسلت حتى اليأس. لم يجمعهم الاقتصاد اليوم مع جيرانهم، وأوغلت السياسة في ثقافتهم حتى نخرت كل شيء. تصدروا الرفض للسوريين وكانوا «أشرس» من طلاب الجامعة اليسوعيّة. لقد أورثوهم الصلافة، ولم يكونوا في وارد التخلي عنها. كان ضرب العمال التائهين في عين الرمانة مسوّغاً وبمثابة فرصة لا تعوض للانتقام. وتكرر عشرات المرات. صارت الأمور بالمقلوب، تبدل العالم، والآن، يفضل السوريّون عين الرمانة الوديعة على الشياح «الحذر». ذات فجرٍ رسم وديع بنفسه صليباً مشطوباً على جدار في حيّ فرعي يودي إلى فرن الشباك، صليب يندم على «شطبه». لم يتحول إلى عوني، ولم يكن قواتياً في حياته. ما زال بشير الجميّل بطله الوحيد. تخلى عن الدم من دون أن يتحول إلى غاندي. توبة الذئاب لا تعني أنها صارت حملان. وديع جاهز للقتال باسمه، كما حدثت الأمور في 1975. أخبره والده، الذي كان في حزب الوطنيين الأحرار، أن الناس فرضت القتال على الأحزاب آنذاك. طبعاً، «لا أتخيّل العونيّين يقاتلون»، يعقب ضاحكاً. ضحك من شدة الألم. في السياسة، حاز التيار الوطني الحرّ معظمَ أصوات سكان عين الرمانة في الانتخابات الأخيرة، وإن كانت القوات اللبنانيّة هي الأنشط، وقد نظمت صفوفها على نحو «دقيق»، بعد خروج قائدها من السجن. ويا لها من مفارقة. تنسحب تركيبة «الأحجام» الحزبية التي في الشياح على عين الرمانة. الشياح مقترن بحركة أمل، كما تقترن «قلعة الصمود» بالقوات اللبنانيّة. وفي الواقع، الناس مع حزب الله في الشياح، ومع عون في عين الرمانة. وعلى قياس «شعبوي»، ولكنه يأخذ السلوك السوسيولوجي لهذه الأحزاب في الاعتبار، يتضح جلياً، أن السكان، حتى المندفعين منهم، لا يرغبون ركوب تلك البوسطة المشؤومة إطلاقاً. فلنأمل أن تكون الجملة الأخيرة صائبة، ونضيفها إلى أمل مجاني آخر... ألا تكون الحرب التي تنتظر في مكان آخر.

  • شارك الخبر