hit counter script
شريط الأحداث

- جهاد الملاح

شعب الـــXanax

الجمعة ١٥ نيسان ٢٠١٣ - 06:56

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

جلست السيدة اللبنانية الخمسينية في مقعدها داخل الطائرة، ثم سحبت من محفظتها شيئاً ما، وأخذت "تُضَيِّف" من يجلس إلى جانبها وأمامها. بالطبع، مضغ العلكة في الطائرة جيّد لأنّه يساعد على تخفيف الضغط داخل الأذن. لكنّها لم تكن علكة تلك التي تصرّ السيدة على "تضييفها"، وتدعو من إلى جانبها إلى أخذ حبّة أخرى يبقيها معه لوقتٍ لاحق. كانت فقط حبوب دواء "Deanxit" المهدّئ للأعصاب.
إنّ هذا المشهد يتخطّى فوبيا الطائرة، التي ربما تدفع إلى تناول حبّة ما خوفاً من الارتفاع أو تحسّباً للمطبّات الهوائيّة، إذ أنّه يعكس ظاهرة منتشرة في لبنان منذ أيام الحرب الأهلية، وهي ثقافة الأدوية المهدئة.
وهذه الظاهرة، التي تطوّرت مع استمرار وتفاقم المشاكل والأزمات، تختلف عن ظاهرة حبوب الهلوسة والحبوب المخدّرة التي انتشرت في السنوات الأخيرة بين بعض الشباب اللبناني، على خلفيّات إجراميّة تقودها شبكات المخدرات أو جماعات تريد بث الانحراف في البلاد أو ربما جهات تهدف إلى إلهاء الشباب عن التفكير السليم في الدين والسياسة وغيرهما. فثقافة المهدئات، الشائعة عند الآباء والأمهات بشكل خاص، منتشرة بين العائلات المحترمة والمنضبطة، ومن بينها الكثير من العائلات المتعلمة والمثقفة.
وعلى الرغم من أنّ السبب التقني المباشر لوجود الأدوية المهدئة في معظم المنازل اللبنانيّة يعود إلى سهولة الحصول عليها بسبب عدم التزام الكثير من الصيدليّات والمراكز الصحيّة بالضوابط المفروضة، التي كانت وُضعت منذ سنوات مع وصول عدد علبات الأدوية المهدئة المستهلكة إلى عدة ملايين في العام الواحد، فإنّ أسباباً عدّة صنعت ومازالت تصنع وتعزّز ظاهرة تناول المهدئات في لبنان.
فالحاجة إلى تلك المهدئات كانت في أيام الحرب الأهلية توازي الحاجة إلى الملاجئ، وكانت تشكّل الملاذ الوحيد في مواجهة التوتر والانهيار العصبي عند كل حادث مقلق، وعند كل قصف سُمع بعد وقت قليل من ذهاب الأولاد إلى المدارس، أو قبل وصولهم إلى المنزل بقليل.
ومع انتهاء الحرب، استمرت هذه الظاهرة وتنامت، أولاً بسبب اعتياد الجسم على الحبوب وسهولة الحصول عليها، وثانياً بسبب استمرار الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، التي ظلّ يفرزها الحُكم السيئ، وصولاً إلى العام 2013 الذي تجتاحه الأزمات من كلّ حدب وصوب.
ووسط الحذر الدائم والقلق مما هو قادم، والانتظار المزمن للحرب والدماء عند كلّ صباح ومساء، والتصريحات السياسيّة الخرقاء ونشرات الأخبار الحربيّة، والخوف من كلّ شيء وعلى كلّ شيء، قد تصعب الحياة الهادئة والمستقرّة، ويصبح التوتر والاكتئاب وأوجاع الجسم واضطرابات النوم ظواهر تلازم الحياة اليوميّة.
يمرّ المواطن اللبناني يوميّاً من التنمية المفقودة، والكهرباء التي لم تعرف طريقاً إلى النور بعد، ومشاكل المياه، إلى الاتصالات السيئة في وسط العاصمة كما في القرى، وأسعارها الأغلى عالمياً، إلى الانترنت الباهظ والمستفز الذي يسيل الشتائم في كل حين، إلى الوزارات المتعفنة، إلى أقساط المدارس المخيفة للفقير ومتوسط الحال، إلى الغلاء المعيشي وأسعار الوقود غير المنطقية والرواتب المتدنية.
ومن الشوارع التي تملؤها الفوضى وتصدح منها أبواق لا تُسمع إلا في الدول المتخلّفة، ويتنقّل عبرها سائقو التاكسي بإيماءات يعرف الجميع أنّها شتائم للسياسيّين، يصعب على البعض استخدام المنطق قبل تناول حبّة Xanax أو ربما Lexotanil.
إذا كان تنصّل السياسيّين اللبنانيّين الدائم من تمثيل مصالح الشعب بشكل صادق ومثمر، يجعل لبنان بلداً ديكتاتورياً مقنّعاً بعبارات الديمقراطية ويصنع من الشعب عبداً خاضعاً يتوّهم الحرية، فإنّ أمراض الضغط والتوتر وثقافة إدمان المهدئات الناتجة عن الأزمات والمشاكل التي يتسبّب بها النظام السيئ والفساد السياسي في هذا البلد، تجعله يتشابه أكثر فأكثر مع الديكتاتوريات، التي نشأت فيها أجيال اعتادت على القمع والخوف من الهمس برأي سياسي في المدرسة والجامعة والتاكسي ومكان العمل، فتربى في داخلها التوتر والأمراض والعقد النفسيّة.
بعد 70 عاماً من الحكم السيئ، وفي الذكرى 38 لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، وبعد 23 عاماً من نهايتها "المفترضة"، يواصل جزء كبير من الشعب اللبناني المعاناة من أمراض نفسيّة تمثّل النقيض الآخر لكآبة الرفاهيّة، ويستمرّ في العيش وسط حذر مزمن كأنّه فوبيا حياة، ليواجهه تارة بحبّ الحياة وطوراً ببعض الحبوب. لكن للأسف، إنّ تلك الحبوب، التي تهدئ الجسم وتهدمه تدريجيّاً، لا يصل مفعولها إلى أروقة رجال السياسة ومدّعي الدين في لبنان، حيث الأزمات تُصنع وتُستدام، والمصالح الشخصيّة تتحكّم، والنفاق يطغى، والكذب يتسيّد.

 


 

  • شارك الخبر