hit counter script
شريط الأحداث

باقلامهم - البروفيسور جاسم عجاقة (خبير إقتصادي وأستاذ في الجامعة اللبنانية)

القطاع المصرفي القبرصي ضحيّة العولمة

الإثنين ١٥ نيسان ٢٠١٣ - 08:01

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

تُشكّل الأزمة القبرصية تحدياً جديداً لقدرة منطقة اليورو على إدارة الأزمات المالية والاقتصادية الداخلية. ولكن على الرغم من صغر قبرص إقتصادياً (الناتج المحلي القبرصي يُشكل أقل من 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو) إلا أنّ العواقب قد تكون كبيرة على القطاع المصرفي لمنطقة اليورو وعلى النظام المصرفي العالمي. فما هي خفايا هذا الملف؟
العولمة هي مبدأ قديم تعود أصوله الى العهود القديمة (مئة ألف عام قبل المسيح) ويشير إلى التوسع في التجارة العالمية والترابط في المواقف التي تنشأ بين الدول، سواء الأنشطة البشرية أو النظم السياسيّة والاجتماعيّة. ولكن هذه العولمة أخذت منحاً جديداً في أوائل التسعينات حيث أنّ نظرة العالم للعولمة بدأت تتبنى نظرة "القرية العالمية" للباحث مرشال ماك لوهان (1967). هذه النظرية تُترجم بقدرة الشخص على الحصول على معلومات في أيّ مكان في العالم بسرعة عالية ويعطي انطباعاً بأنّها في المكان الظاهري نفسه، أي في القرية نفسها.
ويتجلّى ظهور العولمة من خلال من تزايد ترابط الاقتصادات وتوسيع التجارة والتفاعل الإنساني، أي بمعنى آخر نقل وتبادل العمالة والسلع والمعرفة. وهذا التزايد في ترابط الاقتصادات، يؤثر يوماً بعد يوم على عدد كبير من الناس في العالم مع آثار زمنيّة خاصّة بكلّ شخص ومجتمع.
ويُخبرنا التاريخ الحديث بأنّ النظام المالي العالمي كان من أوائل القطاعات التي طبّقت العولمة، حيث بدأ الحديث عن الاستثمارات الماليّة في الأسواق المالية التي دخلت في الحسابات الاقتصادية بشكلٍ قويّ. وبدأت الدول تخلق سياسات اقتصاديّة وماليّة وضريبيّة لاستقطاب رؤوس الأموال الأجنبيّة.
ولكن، كما ولكلّ نظام، كان للعولمة الماليّة آثار جانبيّة سلبيّة أهمها:
- تعلق السياسات الاقتصاديّة والماليّة العالميّة بعضها ببعض وغياب قدرة الدول عن الانحراف كثيراً عن معدّل السياسات الاقتصاديّة والماليّة العالميّة.
- إمكانيّة انتشار الأزمات الماليّة والاقتصاديّة عالميّاً عبر النظام المالي العالمي (Crisis Vehicle).
- السماح لرؤوس الأموال غير الشرعيّة (التي تأتي من تجارة الأسلحة، التجارة بالإنسان وبأعضائه، المخدرات...) بالدخول الى الدائرة الماليّة وشرعنتها (تبييض الأموال).
- السماح لرؤوس الأموال شرعيّة أو غير شرعيّة بالتهرب من دفع الضرائب.
وشكّل النظام المصرفي القبرصي محطّ أنظار المستثمرين الروس حيث بلغت الودائع الروسيّة 31 مليار دولار أميركي وفق وكالة "موديز". كما بلغت الودائع الأوكرانيّة بين 6.41 الى 19.2 مليار دولار أميركي وفق حاكم مصرف أوكرانيا السابق. وهذه الودائع، مع تقاعس الحكومة القبرصيّة عن تشديد الرقابة على المصارف، دفعت وزير المال الألماني الى الطلب من أوروبا إجراء تحقيق حول تبييض الأموال في قبرص. وبعد مرات عدة وُجهت بالرفض من قبل الحكومة القبرصيّة، قبلت هذه الأخيرة بتحقيق من جهة ثالثة مستقلة.
وأدّى تعرّض القطاع المصرفي القبرصي الى الدين السيادي اليوناني، الى محو نصف الأصول المستثمرة في هذه الديون وأوصل المصارف القبرصيّة الى مرحلة عدم القدرة على دفع الاستحقاقات ممّا دفعها الى طلب مُساعدة بقيمة 13 مليار دولار من أوروبا. لكنّ أوروبا وضعت شرطين لهذه المساعدة:
- إلقاء الضوء على تبييض الأموال في قبرص.
- الطلب من المودعين المشاركة في إنقاذ الجزيرة.
وخلق هذان الطلبان المحقّان مخاوفاً لدى السلطات الماليّة، المستثمرين وعامة الشعب في أوروبا والعالم. وهذا الخوف مبرر إذا ما نظرنا الى السيناريوهات التي يمكن أن تحصل. فالمعروف، وبعكس ما قيل، إنّ مشاركة المودعين ستكون بقيمة 10% من الأموال المودعة، فالمُتوقع أن تبلغ هذه النسبة حدود الـ 60% من المبالغ المودعة موزعة على الشكل الآتي: 10% ضرائب مباشرة، 37.5% ستتحوّل الى أسهم في المصارف المودعة فيها الأموال، و22.5% من الودائع مجمّدة الى 90 يوماً أقله الى حدّ تخمين الحاجة الفعليّة. وستشكّل هذه الخطوة سابقة في تاريخ النظام المصرفي الغربي، إذ لا يُذكر أنّ مودعين شاركوا في إنقاذ مصرف من الإفلاس. أيضاً، وفق نتيجة التحقيق الذي سيحصل حول عمليات تبييض الأموال، فمن المتوقع أن تكون هناك مصادرة لأموال مودعة من قبل مودعين روس وأكراونيّين.

والجدير بالذكر أنّ المصارف تعكس الحجم الحقيقي للإقتصاد، إلا أن هذه ليست حالة قبرص فحجم هذا القطاع يُشكل 7 مرات حجم الإقتصاد القبرصي. وإذا ما نظرنا الى البيانات الماليّة التابعة لمصرف LAIKI، نجد أنّ حجم الودائع يمثل 30 مليار يورو مقابل 1 مليار يورو كرأسمال، مما يُظهر هشاشة هذا القطاع الذي استثمر قسماً كبيراً من ودائعه في الديون السياديّة اليونانيّة والتي خسَّرت القطاع المصرفي القبرصي بحدود 6 مليار دولار في 2012.
سيدفع ذلك كلّه المودعين الى سحب أموالهم من الجزيرة ممّا سيزيد الأضرار الجانبيّة على اليورو (للذكر انخفضت الودائع في قبرص بنسبة 2.1% في شباط و2% في كانون الثاني 2013). وستترجم هذه الأضرار على صعيدين: يتمثل الأول بسحب المودعين في أطراف أوروبا أموالهم من المصارف في هذه البلدان ممّا سيزيد الضغط على المصارف في منطقة اليورو. ثانياً، إنّ سحب أموال كثيرة من القطاع المصرفي القبرصي سيضع هذه المصارف في حالة إفلاس ممّا سينعكس بشكل مباشر على المواطنين القبارصة وسيؤثر على اليورو بشكلٍ مباشر لأنّ وكالات التصنيف الائتماني لا تستطيع تخفيض قبرص وحدها وهي عضو في منطقة اليورو. وسيجرّ هذا الافلاس وراءه عدد من الافلاسات في العالم وخصوصاً في روسيا التي استثمرت 40 مليار دولار أميركي في الشركات القبرصيّة إضافة الى 31 مليار دولار كودائع.
ممّا لا شك فيه أنّ المصارف القبرصيّة وعلى الرغم من ودائعها الهائلة (أكثر من 150 مليار دولار) أظهرت مدى أهميّة التناغم بين حجم الاقتصاد وحجم القطاع المصرفي والذي ما هو إلا مموّل للدائرة الاقتصاديّة. من هنا، يُطرح السؤال حول قدرة القطاع المصرفي اللبناني على مقاومة أزمة في الماليّة العامة اللبنانيّة لما لها من تعرض للديون السياديّة اللبنانيّة. ويُمكن القول إنّ مغامرة بعض المصارف اللبنانيّة في دول الجوار كسوريا وقبرص أدت الى خسائر محدودة الى حدّ مُعيّن، ولكن يظهر اليوم أكثر من أيّ وقت مضى أنّ الرأسمال المطلوب ضمن معيار بازل 3 والذي تحترمه معظم المصارف اللبنانيّة لن يكفي لردع أزمة ديون سياديّة لبنانيّة، إلا إذا اعتمدت الحكومة في هذه الحالة مبدأ إشراك المودعين بإنقاذ المصارف اللبنانيّة. وهنا يُمكن القول إنّ مبدأ "قداسة الملكيّة"، أساس الاقتصاد الحر، سيذهب في مهبّ الريح.

  • شارك الخبر