hit counter script

- المحامي لوسيان عون

ديمقراطية هستيرية

الجمعة ١٥ كانون الثاني ٢٠١٣ - 07:17

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

من غير الطبيعي في مكان ما تشهده الساحة السياسية الداخلية من أفكار وتطلعات سياسية لها صلة بمشاريع قانون الانتخاب المقترح بحيث وصل بعض ما تمّ طرحه من مداولات الى حدّ القاء الوطن في آتون صراعات مذهبيّة وطائفيّة واقحامه في خانات وتقوقعات لن تستفيد منها سوى الجهات التي من مصلحتها تغذية الاقطاع والمذهبيّة والتطرف.
فأشدّ هولاً ما يطرحه البعض اليوم الشيء ونقيضه، وكأنّ هذا البعض إما عن جهل يدخل لبنان في بازارات لا طائلة أو جدوى منها، وإما عن قصد في سبيل ترويج مشاريع يدري أنّه لن يكتب لها النجاح، وكأنّ قانون الانتخاب أضيف الى جانب العدّة التي يستخدمها أولئك الذين زجّوا البلد في حروب عبثيّة وهم يجهزون على ما تبقى.
وبالعودة عشرين عاماً ونيف الى الوراء، من المسلم - مفترض ذلك – أنّ مختلف القوى السياسيّة في لبنان أٌقرّت بالتزامها باتفاق الطائف، (وإلا فليبح أيّ معترض اليوم على ذلك خصوصاً في ظلّ ما يحكى عن عزم البعض على طرح مبدأ المثالثة)، وانطلاقاً من هذه الثابتة (أي الإذعان أم الموافقة على الطائف) فقد جاءت مواده الدستورية بتوصية نصّت عليها لاخراج لبنان تدريجياً من الطائفية السياسية التي يعبق بها ويعاني منها تمهيداً لالغائها تدريجياً، وهو ما لم يحصل بحيث ما يشهده اللبنانيّون هو قمّة "نقع" النظام اللبناني بـ "زوم" الطائفيّة وترسيخها قولاً وفعلاً وممارسة حتى الثمالة، وقد بات أمراء الطوائف والاحزاب الطائفية يمثلون اليوم حكومة الظل، أما حكومة الواجهة فلا تضم سوى موظفين عند تلك الهيئة العتيدة التي اسموها هيئة الحوار الوطني التي تمثل المسؤولين الفعليّين الذين يأمرون الوزراء وشريحة كبرى من النواب بحيث بات النظام فعلياً يضم كتلاً متراصة بداخلها وقد شهدنا أمثلة ووقائع شتى تثبت هذا القول. من تلك الشواهد "بوانتاجات" تشكيل الحكومة الاخيرة وحسابات نيل الثقة التي كانت عملياتها دقيقة بشكل يبقى فيها الفارق يقف أحياناً على صوت واحد معروف سلفاً وقبل أيّام ممّا يدلّ على أنّ لبنان اليوم ممسوك بـ "أكثريّات" فعليّة بينما الاقليات، وما أكثرها ومن بينها شعب لبنان العظيم الذي جرّد من لقمة عيشه وحريته وكرامته ورزقه المصادر أحياناً وحقوقه المسلوبة، فلا تحفظ له كرامة إلا يوم اجراء الانتخابات لساعتين أم ثلاث، كرامة جزئيّة ممزوجة بالزفت والخدمات والوعود المعسولة.
لم يكن ما سبق بيانه سوى مقدمة لما سوف يجري تبيانه تزامناً مع ما يثار لجهة طرح مشروع القانون الاورثوذكسي، فبعيداً عن الحسابات والارقام وفرص الفوز ومخاطر الخسارة، فإنّ هذا القانون بطبيعته وآليّة تطبيقه ونتائج هذا التطبيق تأتي مخالفة للدستور أولاً طالما أن قواعده تنتقل من فرز المقترعين وفق المذاهب وحصر اقتراع كل فئة من هؤلاء للمذهب الذي تنتمي اليه وهو ما سوف يدفع كل لبناني انطلاقاً من المذهب الذي نشأ في كنفه، وبدءاً من تاريخ اقراره في مجلس النواب، الى حصر اتصالاته وتواصله ونشاطه ورجائه وانتمائه السياسي وتبعيته بسياسي من هذا المذهب بالتحديد، ممّا يحوّل لبنان الى قبائل وشيع وتكتل قوى جديدة وأحزاب ليست هذه المرة طائفية، بل مذهبيّة، أي سنرى حكماً حزباً أورثوذوكسياً على سبيل المثال وحزباً كاثوليكياً وحزباً مارونياً، بل أحزاباً متعددة لكل طائفة، ممّا سيدخل لبنان في آتون من التقوقعات والفيديراليّات المذهبيّة في حين أن الدستور كانت روحيته تميل الى الخروج من الطائفية السياسيّة، وتأسيس مجتمع علماني توصلاً لتنشئة علمانيّة مؤسساتيّة، فتصبح مؤسسات الدولة بتركيبتها بعيدة عن الصراعات المذهبيّة والطائفيّة فلا تدخل هذه الأخيرة أسوارها لتفسد ملفاتها وجواريرها وملفاتها وتؤجج صراعاتها وتحرق مشاريعها وتبعثر محتوياتها.
هذا التوجه اليوم، والذي يشقّ طريقه نحو الاقرار، كان سبباً ودافعاً لكي يدلي فخامة رئيس الجمهورية بموقف شدّد في خلاله على أنّه لن يوقع على أيّ قانون انتخاب إن كان مخالفاً للدستور، وهذا الموقف الشجاع لم يكن الا نابعاً من القسم الدستوري، خصوصاً أنّ كلّ ذي مصلحة بامكانه غداً الطعن بدستورية هذا القانون الطائفي لتعارضه مع أحكام الدستورذ، وما أسهل حيثيات الطعن في المراجعة ذات الصلة طالما أنّ الدستور واضح وصريح لهذه الناحية.
أما أولئك الذين وقعوا في حيرة من أمرهم فكانوا تارة مع الغاء الطائفية السياسية، وطوراً مع قانون طائفي، فإنّ سؤالاً يطرح عليهم في هذا الظرف بالذات: لمَ هذا التباين والتناقض في مواقفهم، وهل أنّ طرح مشروع قانون في هذا التوقيت يوتّر الاجواء السياسيّة أم يريحها؟
وهل أنّ نيّة هؤلاء التهديد والوعيد بفرض هذا القانون في ظلّ معارضة له من قبل أحزاب وفئات أساسيّة في لبنان لا يتعارض مع الديمقراطيّة التوافقيّة التي يسعى لبنان اليها؟
ولماذا لم يحدّد هؤلاء رغبتهم في إرساء ديمقراطيّة الاكثرية واعتمادها أم الديمقراطيّة التوافقيّة ولا سيما في الشؤون المصيريّة للبلاد وهي لم تكن تعني فعلياً إلا اجماعاً، أم أنّ فرض ما يناسبنا حلال تارة وتارة حرام، وفرط ما يناسبنا حلال حيناً وأحياناً أخرى حرام؟
انها "هستيريا" سياسيّة في كلّ ما للكلمة من معنى في ظلّ غياب الديمقراطيّة الحقيقيّة التي نصّ عليها دستورنا، فلم يعد لهذا الدستور وزن، ولم يعد للوزير هيبته ووقاره ودوره الفاعل في ظلّ تقييد لمواقفه من قبل مرجعيّته، كما لم يعد يحترم النائب كنائب عن الامة جمعاء، بل تحوّلت المؤسّسات الدستوريّة الى كنتونات لأمراء الطوائف والاحزاب، وبات الحكم لهؤلاء و"الامر لهم" بكلّ صراحة وبساطة، وها هم هؤلاء أنفسهم يطرحون فرز كتلهم ومصادرة المذاهب وتقسيمها، وتحويل مصدر القرار الى أمراء المذاهب، فيصير لكلّ أمير لطائفة أمراء للمذاهب التي ينتمي اليها فتمنح هذه الاخيرة مرجعيّة السلطة والقرار والفصل بكل شاردة وواردة، كما يعود لكلّ بطريرك وشيخ السلطة السياسيّة المعنويّة الاعلى في الفصل في الشؤون السياسيّة والدنيويّة، وهنا نستذكر يوم طرحت حكومة التكنوقراط كيف هبّ هؤلاء لتشكيل معارضة شرسة لأنّ من شان تلك الحكومة إبعاد شبح الطائفيّة عن السياسة وشؤون المواطنين.
الماروني ينتخب الماروني والشيعي ينتخب الشيعي والسنّي ينتخب السنّي، وهكذا يصبح للبنان برلمانات سنيّة وشيعيّة ومارونيّة وكاثوليكيّة وأورثوذكسيّة وهكذا دواليك، فلن يعود بعد اليوم من المؤثر معارضة ماروني لشيعي ولا تحفظ شيعي على كاثوليكي على سبيل المثال، بل "قبائل" مذهبيّة تحكم نفسها بنفسها و"تبلسم جروحها" بنفسها.
انه الانصهار والوحدة الوطنيّة والتفاهم بامتياز في وطن كان شعبه تواقاً الى اللحمة والانصهار والتعايش فلم يرض زعماؤه. ولكن، أغفل من سعى في اقرار المشاريع الطائفية والمذهبية اختصار الطريق بصراحة، فكان حريّ بهم أن يعلنوا - ومع كامل تقديرنا واحترامنا للمقامات الروحيّة - مجالس الاساقفة والبطاركة المسيحيّين ومشايخ الطوائف المحمديّة، يؤلفون حكماً مجلساً لنواب الامة طالما أنّ هؤلاء يمثلوننا جميعاً – وبشهادة الجميع – طائفيّاً ومذهبيّاً، فيخلصوا لبنان من "مذبحة وشيكة" هي الانتخابات النيابيّة، لا نرى منها الا استحضار شياطين الحرب وأمرائه والثورات وويلاتها الى أقلام الاقتراع ما قد تتسبّب بعشرات القتلى والجرحى، ولن تؤت بالعزّة والازدهار والرخاء الى أيّ من أفراد الشعب اللبناني.
عجباً ممّا يجري، بل عجباً من الذهنيّة الحديثة القديمة التي تتحكّم بنا ولا تعطي أيّاً منّا أيّة فرصة للتحديث أم التطوير.
إنّها ديمقراطيّة هستيريّة بكلّ ما للكلمة من معنى.

  • شارك الخبر