hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - سمير عطاالله

عند عتبة المصير

الأربعاء ١٥ تشرين الثاني ٢٠١٢ - 08:20

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

النهار

خلال أزمة الصواريخ الكوبية قبل نصف قرن تماماً لاصق العالم المصير الأخير. إدارة المفتاح النووي في واشنطن أو في موسكو ويَبرد كوكب الأرض ولا يبقى شيء أو يبقى أحد. وذكر وزير الدفاع الأميركي روبرت ماكنمارا أنه عاد إلى منزله ذلك المساء وألقى على الشجرة الكبيرة في الحي، ما اعتقد أنه النظرة الأخيرة. وعندما تسنّى لي بعد سنوات الذهاب الى "جورج تاون" ذهبت أتفرج على الشجرة الأخيرة.
في تلك المواجهة لم تنتصر أميركا ولا روسيا، بل البقاء والحياة، لعب نيكيتا خروشوف لعبة الكرامة حتى اللحظة الأخيرة، ثم تذكّر موتى روسيا خلال قرنين، فرمى المفتاح النووي وذهب ينام وترك العالم أجمع يستيقظ في اليوم التالي.
تخاض الحروب من أجل الوصول الى سلام. أي الى تسوية. لذلك يكون الانتصار الوحيد بالوصول الى تسوية من دون مكابدة الحرب. وليس أكيداً ان الحرب تولّد تسوية وسلاماً، بل منها ما يفضي الى حروب متوالدة.
الحرب العالمية الثانية ولدت من رماد الحرب الأولى، الحروب الدينية في أوروبا توالدت من ضغائن ما قبلها. حروب الأندلس أنهت الأندلس ولم تنته. العباسيون والأمويون انهاروا تحت حروبهم.
توصل اللبنانيون الى "الميثاق"، أو شرعة التعايش التي استمرت حتى 1975، من دون أي ضحية. لكنهم فقدوا 200 ألف قتيل وفقدوا إنسانيتهم وفقدوا مكانتهم في العالم، من أجل ميثاق آخر هو اتفاق الطائف. كان يمكن الوصول الى هذا "الاتفاق" من خلال استفتاء، أو أكثر. لماذا المحن والكوارث الدموية ما دامت ستؤدي الى النتائج نفسها؟
عندما كان الرئيس الياس سركيس يدير الأزمات وحيداً والجميع يتقاتلون، كتبت إليه أنه ما دام يطلب الممكن من الأفرقاء فلن يصل الى شيء، لا بد أن يطلب المستحيل لكي يصل الى الممكن. الرئيس ميشال سليمان ذهب الى طلب الاستحالة. أي الحوار حول طاولة واحدة، ما أن يحضر ضيوفها حتى تتحول مجموعة خنادق ومتاريس.
راجع صور النزاعات والحوارات والاتفاقات الحامية، تجد أن وراء كل مشارك محلي، ظلاً من الخارج، مع تغيير جوهري في الحضور وفي الغياب: حضرت إيران وغابت منظمة التحرير. لكن العنوان لا يزال كما هو: تحرير فلسطين من لبنان.
لا يزال الحاضر الأكبر في الظل هو سوريا، ولكن هذه المرة ليس فقط بقوتها في الداخل اللبناني بل بضعفها ومخاطرها وهمومها في الداخل السوري. ودمشق العاجزة الآن عن أي حسم في ديارها، لا تزال تملك نفوذاً حاسماً في لبنان ولكن خلافاً للماضي، هو نفوذ سلبي، أي له القدرة على التفرقة وليس القدرة على الجمع. وما من فريق آخر قادر على ذلك. ففيما يمثّل وليد جنبلاط الفريق الوحيد القادر على الفصل بين الكتلتين الرئيسيتين، فهو لا يملك إمكانات الجمع بينهما. ليس في مثل هذا الوضع الهائل التشعبات، إقليميا ودولياً.
سوريا الضعيفة أكثر تداعياً على لبنان من سوريا الموحدة. ومنذ فترة بدا ان الحل في دمشق أصبح خيالياً. لم يتدارك النظام الريح فغرق في العاصفة. تصرّف وفقاً لشعور متخم بالقوة، في مواجهة كان يجب ان تدار بالحكمة. في الشؤون الداخلية وقضايا الأهالي، العنف آخر الإجراءات لا أولها. هذا إن جاز كردّ على عنف آخر. في الستينات تكهّن الروسي أندريه أمالريك بسقوط الاتحاد السوفياتي عام 1984 لأن تزايد نسبة السكان سوف تفوق طاقة رجال المخابرات.
الأمن أولى الضرورات لكنه ليس الحل في علاقة الشعوب بدولها. تساقط المسار الأمني في سوريا شهراً بعد شهر، الى ان تحوّلت مسرحاً لـ"لعبة الأمم" مثل لبنان. ومثل هذه الحروب لا تقاس بمدى الانتصار بل بمحدودية الخسارة. والتهديد الوحيد الذي يُطلقه الرئيس بشار الأسد منذ فترة هو مدى الضرر الذي يستطيع إلحاقه بالمنطقة والعالم، وليس مدى ما كان يمكن ان يضمن من استقرار لبلده وجواره العربي.
يقول الكاتب قاسم قصير إن الرعب الحقيقي سوف يكون من استفحال النزاع السني – الشيعي وتفجّره في المنطقة وربما في العالم. كذلك يقول إن "حزب الله" يعيد النظر في بعض سياساته بعدما ذهب بعيداً في دعم النظام واستعداء الشعب السوري. هل يمكن ان تنطلق هذه المرة الحلول أو التسويات من لبنان الى العالم العربي؟ ان تبدأ من هنا مبادرة تنعكس على لجم الصراع بين الشيعة والسنة، الذي سوف يكون بمثابة حرب نووية كتلك التي لم تقع بين أميركا والاتحاد السوفياتي؟ من يمكن ان ينتصر في مثل هذا الفيضان العنفي؟ الندم. سوف تنفتح أبواب الجحيم على قرون أخرى من جهنم.
"حزب الله" هو الفريق القادر على تحصين لبنان من العدوى. ليس طبعاً بهذه السهولة ولا بالتمنيات. لكن الانتقال من مرحلة صراعية الى مرحلة وفاقية في لبنان، هي مسؤوليته أولاًً. فليس من فريق أو مجموعة أفرقاء، لهم ما له في توازن القوى. وقد برهنت الكارثة في سوريا هشاشة الأحلاف وسرعة التحوّلات. فبعدما كانت دمشق تتمتع بتحالف تركي - قطري إضافة الى الرابط مع حماس وفرنسا ساركوزي ودعم سعودي، أصبحت الآن معزولة إلاَّ من إيران وروسيا. وقد أفقدتها خسارة "حماس" جزءاً من أحقية النطق باسم الممانعة. وفي الحرب على سوريا غابت الحرب من أجل فلسطين، وظهرت طائرات "الميغ" و"السوخوي" في سماء دمشق، تأكيداً لقول الرئيس الأسد إن "العدو أصبح في الداخل".
هل ما نطالب به هو "المستحيل"، ومجرد تمنيات رومانسية في اصطلاء مذهبي إقليمي دولي بل "كوني" وفق مصطلحات التواضع الحالي؟ ربما. وربما أيضا ًليس من حل آخر أمام المنطقة برمتها، إلا ان نهدمها لكي نعود فنبنيها من جديد.
تجاوز الوضع في سوريا إمكان التسوية أو التوافق. راهنت دمشق، بتشجيع روسي متسرّع، على قوة القوة. ولما لم تقدر هذه القوة على أي حسم، انفتحت أبواب سوريا على قوى التطرف، وصارت مكونات البلد عرضة للاخطار. وأي حل في سوريا يجب ان يحمل الضمانة لتلك المكونات، وإلاّ غارت البلاد في حروب انتقامية لا قرار لها.
أي اتفاق حقيقي في لبنان، يمكن ان يقدم نموذجاً يقلد، بدل نموذج التحارب القائم. وقد أعاد العماد سليمان الى الرئاسة الكثير من معالم المرجعية ومفاهيمها، وتاليا فإن خيمة الحوار أنفع وأبقى وأرقى من الخيام المتبادلة في وسط المدينة.
مات الشهداء من أجل لبنان موحد وقضى رياض الصلح من أجل لبنان ميثاقي. وفي ظل نصب الشهداء ونصب رياض الصلح تقوم خيام الانقسام. ويقيمها شبان لم يعرفوا نضارة لبنان يوم كان موطناً لأهاليهم وموئلا لمن شاء. الفارق شاسع بين النُصب والاصنام. التمثال للوطن والصنم لنفسه. بدأت الرسالة النبوية بالحملة على أصنام العصر الجاهلي.
بعدت سوريا عن ان تكون مدخلاً ممكناً للحلول، وخصوصاً في لبنان الذي طالما نظرت اليه وعاملته كبلد سائب ودولة هالكة. ولعلها فرصة، مهما كانت بعيدة هي أيضاً، ان يحاول اللبنانيون حلاً لأنفسهم، ليس من دونها، ولكن من أجلها ايضاً.
يتطلب ذلك انقلابا على الذات في سبيل بلد أصح وأمة افضل وأبقى. ويتطلب ان يترك كل فريق كبرياءه على باب قاعة الحوار، وان يتحدث المتحاورون خطابا يرتقي الى عتبة المصير.
تكراراً هذه مطالبة بالمستحيل، حيال ما تتردى إليه الاوضاع في المنطقة. وقد أقفل الرئيس السوري آخر الابواب بقوله إنه صنع سوريا وسوف يعيش ويموت فيها. كإنما نحو خمسة ملايين مشرّد لم يصنعوا في سوريا ولهم ترابها، أحياء أو أموات.
تؤدي المكابرة الى الخراب، او الى المزيد منه. مَن كان يتخيل الصور الخارجة من سوريا كل يوم؟ طاولة الحوار في بعبدا هي الطريق الوحيد في هذه البلبلة الدولية: تضع 8 آذار مكابدتها، فالعاصفة لا تُرد بباب نصف مفتوح ونوافذ مشلَّعة.
طبعاً ما نتمناه غير معقول اذا كان من نطالبهم هم هؤلاء السادة. ولكن بماذا تريدون ان نطالب؟ بالنموذج السوري الذي لم يعد يعرف أحد أين سينتهي؟ ثمة مرحلة تنقضي في الدم والتراب. دمشق التي كانت تعطي دروس الوحدة من عنجر تفيق على أزيز "السوخوي". وحلب التي كانت نموذج التعايش صارت تحت سلطة المتطرفين. وحوار بعبدا وسط هذه الاجواء يبدو اليوم دعوة ساذجة، لكنه سيبدو غداً دعوة عميقة.  

  • شارك الخبر