hit counter script

مقالات مختارة - سمير عطاالله

"أسوأ وظيفة في أميركا"

الأربعاء ١٥ تشرين الثاني ٢٠١٢ - 08:39

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

النهار

في 20 كانون الثاني 2009 تجمع نحو مليون ونصف مليون اميركي في البرد والعراء. لم يستطع اكثرهم رؤية الرئيس الرابع والاربعين يلقي خطاب التنصيب، لكنهم كانوا يدركون ان كل شيء كان يحدث للمرة الاولى في هذه اللحظات: اضخم تجمع بشري في تاريخ العاصمة. وشاب اسود في السابعة والاربعين، امه من كنساس ووالده من كينيا، سوف ينام الليلة رئيساً في البيت الابيض الذي بنته سواعد العبيد الذين خطفوا من غرب افريقيا.
باراك حسين اوباما، خلفا لجورج ابن جورج بوش، رمز العائلات الجمهورية الانتهازية في بلد تقوم ثقافته على تساوي الفرص. جاء اوباما في اعقاب رجل وضع اميركا في اسوأ حال اقتصادي وسياسي واجتماعي ومدني، خلال قرن. واطل القرن الحادي والعشرون واميركا في عربدة ضاحل واقع في قبضة مجموعة معروفة بـ"المحافظين الجدد".
يوم تنصيب اوباما كانت اميركا غارقة في حرب مفتعلة في العراق وأخرى عبثية في افغانستان. وكانت سوقها المالية تعاني افظع عمليات النصب وافلاس الشركات الكبرى (انرون). وعام 2008 وحده انضم 2,5 مليوني شخص الى سوق البطالة. وانهارت اسعار العقارات وسوق القروض وسوق الاسهم، وذابت صناديق تقاعد الملايين. طُردت الناس من بيوتها المصادرة، وفَرَغت احياء بكاملها من السكان. وقفت صناعة السيارات (1) على حافة الافلاس وانطوت بنوك في حجم "ليمان براذرز". الركود الكبير مرة أخرى.   
في العراق، حيث قيل إن اميركا آتية من اجل النفط، افرغت الخزانة الاميركية كل ما لديها. وحيث قيل إنها ذاهبة لمحاربة الارهاب، كان اسامة بن لادن يتمتع بالخضرة في أبوت اباد، قرب اسلام اباد، فيما بوش يبحث عنه في تورا بورا. هذا الرجل كان قد انتخبه الاميركيون مرتين. ومن حسن طالعهم ودستورهم انه كان عليه العودة الى البيت. غافلاً او مستدركاً.
الرئيس الجديد كان قد صدر له قبل سنوات قليلة "الجرأة على الأمل" و "احلام من أبي". وابوه كان مسلماً من كينيا. واخوه الاصغر كان مشرداً في احد احياء نيروبي. وعمته الكبرى كانت في كوخ كيني تعلق صورته على جدار من القش. وعمته الثانية كانت مهاجرة غير شرعية في اميركا تنتظر نهاية المعاملات، غير شافع بها اسم العائلة، الذي صار ذلك النهار اشهر اسم في اميركا بعد – او منذ – ابراهام لنكولن.
من اين يبدأ رئيس جاء بعد جورج بوش، وكيف؟ لا يمكن ان نعرض نجاحات او اخفاقات باراك اوباما من غير ان نتذكر الوضع الكارثي الذي جر اليه جورج بوش اميركا والعالم. وهكذا بدأ اولاً بقرارات مالية غير مسبوقة، ثم جاء الى جامعة الازهر ليوجه منها اول خطاب في السياسة الخارجية. لم يكن القصد فقط القضية الفلسطينية، بل اراد ايضاً طلب الصفح عن التاريخ الاستعماري الغربي في المنطقة. وكانت اسوأ وافدح علاماته لا تزال صارخة في العراق، حيث يتمشى رجال بوش وتشيني ورامسفيلد وبقية الزمرة بين البيوت العراقية. اوباما هو الرئيس الذي امر تلك القوات بالخروج.
لم يُرض اوباما العرب، واغضب الاسرائيليين. لم يكن حاضراً لكنه رأى الصور وقد هب الكونغرس يصفق نحو 70 مرة لبنيامين نتنياهو، كأنما ممثلو الأمة الاميركية يريدون ان يقرعوا جميع اجراس التذكير بواقع الحال في آذان العائلة السمراء التي اصبحت تسكن البيت الابيض، وكأنه كوخ العم طوم.
لم يخرج الرجل الابيض من لونه بعد ولا الاميركي الافريقي من فروة الرأس الجعداء. لكن التلة التي بدأ صعودها مارتن لوثر كينغ، هاتفاً "لدي حلم، لدي حلم"، وقف باراك اوباما على ذروتها، مقتحماً السور الابيض.
لأميركا أكثر من وجه. نحن جيل نشأ على نقدها بشدة. رأينا فيها استعمارا جديداً يحل محل الاستعمار القديم والمهلهل. من اسرائيل الى فيتنام الى اميركا اللاتينية، كانت السياسة الاميركية عدوة لذوي النزعات الانسانية. وكان رموز هذه السياسة رجال متغطرسون لا تعنيهم كثيرا ألوان برك الدماء. هنري كيسينجر، الاسوأ في الذاكرة.
في المقلب الآخر يظهر المجتمع الاميركي القابل للحياة والتطور: باراك اوباما من الاقلية الافرو - اميركية، وميت رومني من اقلية اخرى من طائفة المورمون. كلتاهما تعرضت للاضطهاد على مرِّ السنين. لم تحقق التجربة نفسها في روسيا الامبراطورية او السوفياتية (2). هزمت الاولى نابوليون وطاردته الى فرنسا، وكان كبار قادتها من غير الروس. والثانية هزمت هتلر، وطاردته الى برلين وكان جيشها من كل الجمهوريات الخمس عشرة. ولكن عندما انهار الاتحاد تراجعت "روسيا الاتحادية" تاركة معظم الجمهوريات الاسلامية الى سبيلها. والى سبيلها ايضا ذهبت اوكرانيا التي كانت تصدر القادة الى الكرملين، وحتى جورجيا، موطن ستالين، اول حاكم في الساحة الحمراء بعد فلاديمير ايليتش.
يبدو المجتمع الاميركي، الذي اصبح مجتمع اقليات متحدة، قادراً على صهر تنويعاته الكثيرة، فيما تتململ الاقليات في روسيا حتى الآن. وتتحرك في العالم العربي نزعات التناكر وحتى الانفصال. وعلى رغم بعض الاحداث المنفردة او المفتعلة او المدبرة، يبدو كأن 160 مليون مسلم متوحدون ضمن المجتمع الهندي. ما هو السر؟ هل هي طبيعة النظام الديموقراطي بكل هفواته ونواقصه؟ هل يؤدي الحد الادنى من المساواة والحرية وحكم القانون الى تطور عملية الانصهار الاجتماعي، فيما يؤدي النظام الشمولي الى العكس، كما ادى اضطهاد الاكراد في العراق؟ او كما حدث في ليبيا التي كانت هانئة ايام ادريس السنوسي وبعد اربعين عاماً من القذافي تخرج الآن الى الشوارع مطالبة بالفيديرالية؟
للرئاسة الاميركية اهميات كثيرة حول العالم، اهمها بشرياً تجربة باراك اوباما من خلال أبعادها التي لا حدود لها. هل نتخيل مثلاً ان لرئيس اميركا خمسة اخوة واختاً لا يزالون يعيشون في قريتهم، اوغيلو؟ ماذا يمكن ان يحصل لعائلة الرئيس في بلدان العالم الثالث؟ لا اذكر كم دورة جدَّد غيرهارد شرودر في مستشارية المانيا، لكنني اذكر ان شقيقه ظل طوال تلك السنوات شريدا بلا مأوى. هل يعني ذلك انه فظ ام انه يخشى القانون؟ دعونا نميل الى الاحتمال الثاني، لأن الرئيس الالماني السابق أرغم على الاستقالة لكونه حصل على قرض بتسهيلات مبالغ فيها. هذا استغلال المنصب. طبعاً اذا كان في المانيا.
ينتخب الاميركي، اذا عاش معدل عمره كاملا، 15 رئيساً. وفي العالم الثالث ينتخب الرئيس نفسه مدى الحياة. قبل مجيء ميخائيل غورباتشيوف كان الزعيم السوفياتي لا يخرج من الكرملين الا الى الضريح، باستثناء نيكيتا خروشوف، الذي بالغ في استخدام التعابير التي يحفظها من ايام كان راعياً للخنازير،  كما يقول غريمه ريتشارد نيكسون، في كتابه "قادة". لذلك قلبه الرفاق قبل الأوان المعتمد.
عشية حفل التنصيب الاول، وضعت الصحيفة الساخرة "ذي أونيون" عنواناً يقول "رجل أسود يعطى اسوأ عمل في البلاد"، تولى هذا المنصب الاول ممثل كان يؤدّي دائماً دور الرجل الثاني. وبأقلية ضئيلة وصل اليه جورج بوش. الديموقراطية اسوأ الحلول الجيدة، قال تشرشل. في البديل كان يمكن ان يفوز جورج بوش ويبقى مدى الحياة فيلاً في مخزن الخزف. اعطى وصول اوباما لاميركا صفة التحضر، التي جردها منها التكساسي الذي وقع 200 حكم بالاعدام عندما كان حاكم الولاية. وكان منافسه هذه المرة جمهوري ابيض فائق الثراء. الخيار كان للناخب الاميركي.

  • شارك الخبر