hit counter script

- جهاد الملاح

حكاية لبنانيّة ممنوعة من النشر

الإثنين ١٥ تشرين الأول ٢٠١٢ - 07:43

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

أمضى ساعات يتنقلّ بين المحطات بحثاً عن صور النار التي فلتت بين شوارع وأحياء بيروت من دون سابق إنذار. ثمّ أطفأ التلفاز وهمّ للخروج قليلاً، فما كاد يفتح الباب، حتى شعر بالتردّد خوفاً من الشوارع القاتلة والرصاص الذي اعتاد الطيش كلما أغرته شياطين المذاهب في هذا الوطن. عاد مسرعاً وجلس إلى التلفاز مجدداً، ليتذكر فجأة، أنه خارج لبنان.

التقط أنفاسه، واطمأن أن آلاف الأميال تفصله عن طرق الموت، وبإمكانه الخروج حيثما يشاء. لكنه لم يفعل، فالشاشة قد اعتادت الاستبداد به منذ أن وطأت قدماه طائرة الغربة. استسلم لها، واختار أن يبقى بين صورها، يبحث في شوارعها، لعلّه يجد أثراً لحكايته.

سمع قصصاً لا تنتهي عن الفقر والخوف والحذر، يرويها سكان تلك الشوارع كلما أطلّ انفجار، وكلما هرب صباح من نور الشمس. فالكلّ مشغول بأحاديث الموت، يسأل ويحلّل ويتنبأ، ويكدّس اليأس أكواماً فوق أكوام.

لا تلبث تلك الشاشة أن تتوزع إلى شاشات، بعضها يعدّد أبجدية العار، من أول حروف الطائفية إلى آخر حروف الفساد. وبعضها يعدّد الضحايا، بين شهيد وجريح ومحتاج وخائف، وبين من يغفو على أحلام السفارات وتأشيرات الخروج من أحداث قصة، مملّة حتى الموت.

بحث كثيراً، فلم يجد أثراً لحكايته، وغاب اسمه عن سجلات الضحايا. لا بأس، ترك أمره لزمن آخر، وقرّر البحث عن رفيقة عمره بين أحاديث الشاشات وأسماء الضحايا. لكن عبثاً، لم يجد لها أيضاً أي أثر. تملّكه الاستياء والغضب، وبدأ الخوف يسرد قصصاً متبعثرة، تتنقلّ بين عينيه وبين ملامح الشاشة، فرفيقة عمره هي أول الضحايا. رفيقة عمره هي عائلة لبنانية، ضاعت معانيها وتكسرت أشلاء في مدن الأرض.

فكيف لا تلتفت الشاشات إلى عائلة نشأت سوية، لتكبر على التفكك وتعيش على مواعيد الإقلاع والهبوط وعلى موعد كل عيد يستطيع المجيء بسلام، أو تعيش على انتظار "يوم ما"، قد لا يأتي إلا بعد فوات الأوان؟

 لماذا لا يطلب أحد إحالة الجريمة الأكبر بحق المجتمع والوطن إلى المجلس العدلي وإلى محكمة دولية؟ ومن يدفع ثمن هذه الجريمة؟ أسياسيون يعيشون منذ سبعين عاماً على همسات الشياطين، أم نظام فاشل أصبح ضحية وجلاد في آن؟

أراد أن يفعل شيئاً ليلفت الانتباه، وأن يصرخ في آذان من يدافعون عن الطوائف، ويسكتون عن قطع صلات الأرحام، وعن ضرب الأمومة والأبوّة والأخوّة والحب والزواج، ويغضون النظر عن جدة لم ولن ترى أحفادها، وعن أم ضاع أبناءها طول العمر بين القارات. لكن الشاشة التي لا تردّ عنه الشظايا الآتية من وراء البحار، تقوى فقط على ردّ صوته.

قرّر أن ينتظر، ربما يأتي يوم تُحكى فيه القصة المنسية، قصة العائلة المفككة والمبعثرة، وتُفتح ملفاتها في أروقة الحكومة والبرلمان، وتستنفر الدولة لأجلها، وتعلم أنها أعلى مراتب الأمن القومي.

أو ربما في العالم الآخر، في الآخرة، يعود لبنان، بأديان وقيم تقدّس المواطن والإنسان، فيعود الإبن والإبنة والزوج والحفيد، وتتوقف سرقة العمر، وتنتهي حكاية المطارات ودوامة الانتظار.

  • شارك الخبر