hit counter script

مقالات مختارة - الأب جورج مسّوح

الأرثوذكس يتعثمنون

الأربعاء ١٥ تشرين الأول ٢٠١٢ - 08:44

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

النهار

أدّت الحملة على فيلم "فاتح 1453"، الذي يتحدّث عن سقوط القسطنطينية من وجهة نظر تركيّة، إلى منعه من العرض في صالات السينما اللبنانية. هذه الحملة قادها بعض ممّن اعتبروا الفيلم يشكّل "إساءة" إلى المسيحية عموماً، والأرثوذكسية خصوصاً، فكالوا بدورهم الصاع صاعين للأتراك والعثمانيين والدولة العثمانية. وقد رأوا في منع الفيلم انتصاراً لهم على العثمانيّين، مع العلم أنّ القسطنطينيّة ما زال اسمها رسميّاً إسطنبول!.
هذا الانتصار الوهميّ على العثمانيين ليس سوى هزيمة حقيقية للأرثوذكس أمام الثقافة العثمانيّة التي بدأت تغزو صفوفهم منذ فترة. فالحملة ضدّ الفيلم هي مجرّد تفصيل صغير في الحالة الأرثوذكسية المرتبكة في لبنان. فالأرثوذكس، الذين ناضلوا للخروج من نظام الملل في ظلّ الدولة العثمانية إلى رحاب المواطَنة والانتماء القومي والاشتراكيّة والعلمانية، بات بعضهم تحت ألقاب جليلة وتسميات مقدّسة كالأرثوذكسية، يناضل في سبيل العودة إلى هذا النظام البائد.
أصبح النموذج العثمانيّ هو النموذج الذي يسعى بعض الأرثوذكسيين إلى تطبيقه في الحياة العامة. فهل يمكننا وضع الاقتراح "الأرثوذكسي" بأن تنتخب كلّ طائفة من الطوائف الكريمة نوابها في غير خانة العودة إلى نظام الملّة العثمانية؟ وماذا يمكننا أن نقول عن اقتراح إنشاء "هيئة مدنيّة" لطائفة الروم الأرثوذكس، سوى إنه إحياء لمجلس الملّة الذي كان يشرف على شؤون الطائفة؟ وماذا يمكننا أن نقول عن تأسيس حزب أرثوذكسي يرفع شعار الدولة البيزنطية سوى إنه تراجع عن مفهوم الجماعة الوطنية، لصالح طائفية لم تخلّف سوى الحروب والنزاعات بين أبناء الوطن الواحد؟
النموذج العثمانيّ ينتصر، والأرثوذكس يظنّون أنّهم المنتصرون. فالعثمنة، فكراً ونهجاً وسلوكاً، باتت تسيطر على أذهان بعض الأرثوذكس. يتبنّونها بعدما حاربها أجدادهم. شاؤوا الخروج من نظام المِلل، الذي يجعل الأرثوذكس ملّة يقودها دينياً وسياسياً البطريرك القسطنطينيّ، الإتنارخوس (رئيس القوم) إلى الوطن، وبعد أقلّ من قرن تراهم يريدون الخروج من الوطن والعودة إلى كنف القوم-الملّة. دعا أجدادهم منذ أكثر من قرن إلى فصل الدين عن الدولة، وها هم يريدون أن تتعامل الدولة معهم كطائفة مرصوفة إلى جانب الطوائف الأخرى.
العثمانية دولة- أمّة لا حدود جغرافية لها، أمّة شمولية لا تعترف بالأوطان ولا بالأقوام. هي فكرة، لا قومية ولا وطنية، بل تتماهى مع الدولة-الأمة الدينية التي تولي العصبية الدينية شأناً أعظم من العصبية الوطنية أو القومية. الأرثوذكس باتوا عثمانيّين من حيث اعتبارهم أنفسهم أنّهم، سياسياً واجتماعياً، أمّة قائمة بإزاء الطوائف الأخرى! أليس نكوصاً وطنياً انتخاب المرء نواباً من طائفته حصراً؟ أليس ذلك تعصّباً دينياً وتقوقعاً طائفياً؟ أليس معنى كلّ ذلك أن الأرثوذكس، إذا تحقّق ما يصبو إليه بعضهم، سيصبحون أمة قومية-دينية؟
في العام 1899 تمّ انتخاب أوّل بطريرك عربي على الكرسي الأنطاكي بعد قرون عدّة من الهيمنة اليونانية. وفي العام 1918 سقطت الدولة العثمانية. الأرثوذكس، بعضهم يحنّ إلى الفردوس البيزنطيّ المفقود، وفي الوقت عينه يستعيدون العثمنة نموذجاً يحتذونه في الحياة العامّة. لا الحنين إلى بيزنطية، ولا التمثّل بالنموذج العثماني سيردّان المجد إلى الأرثوذكس، بل السعي إلى المواطنة الحقّ وإبعاد الكنيسة الطهور من الغرق في وحول السياسة ومفاسدها.

  • شارك الخبر