hit counter script

مقالات مختارة - فراس الشوفي

عرب المدوّر لا المسلخ: سُلخوا مراراً والكلّ كذب عليهم

الأربعاء ١٥ تشرين الأول ٢٠١٢ - 08:35

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

الاخبار

لبنان ليس لـ«الفينيقيين» وحدهم. عرب المسلخ لبنانيون أيضاً. لا يعرف هؤلاء إن كانوا أقلية أو مسلمين سنّة في بلد العنصريّة الفاقعة. وهم، بين توظيف تيار المستقبل الانتخابي وخوض المعارك عن وليد جنبلاط، يفتقرون إلى المرجعية السياسية

 

يأسرك أبو رباح. صوت خشن، وعينان مخيفتان ثاقبتان تلمعان تحت ضوء «اللمبة» المتدلية من العريشة. ويده التي لا تهدأ، تتحرك على إيقاع الغضب المندفع من الفم. لماذا الغضب والانفعال أمام قلم وورقة، وأقرباء ينصتون في الدار؟
من حقّ أبو رباح أن يغضب ويشتم ويلعن ويرفع صوته. الصوت هنا في الناعمة، لا صدى سيتكرّر له في المسلخ أو الكرنتينا. وكيف لا يغضب العارف بالشاردة والواردة في تفاصيل قومه؟ فهو يخبر عن سنوات من التضحية والنضال قدّمها من يسمَّون زوراً «عرب المسلخ»، ولم تقابلهم الدولة اللبنانية بغير التهميش والعزل وحرمان الحقوق. ومن قدم لهم غير ذلك؟ شيوخ الطوائف يذكرون عرب لبنان عموماً في أمرين: «مرتزقة وقت الحروب، وذممٌ تباع وتشرى في الانتخابات».
يستهلّ السبعيني «فشة خلقه» بالحديث عن الخيمة. يلتفت إلى صديقه أبو فهمي، وقبل أن يبدأ سرده، يعطي إيعازاً بالعينين وإيماءة بالرأس لأحد الأحفاد. تعلو طقطقة فناجين «الشفة»، والإبريق الذهبي الحامي فوق الجمر. يجول الحفيد ساكباً القهوة. أن تُدَوِّر فنجانك في يدك، يعني أن تطلب المزيد من القهوة العربية اللذيذة. «هذه عادة من عادات الخيمة، لكننا لم نعد نسكن في الخيم منذ مئة عام»، يقول أبو رباح وهو يلفّ النبريش حول عنق أركيلته.
اقتفاء أثر العرب في منطقة المسلخ يعني أن تدور على الساحل الجنوبي لبيروت في خلدة والناعمة والسعديات وبشامون وعرمون ودوحتيهما ودوحة الحص، أكثر من أن تزور الكرنتينا. للمناسبة، سمّي العرب عرب المسلخ بعدما بدأوا بذبح المواشي وبيعها قبل ستين عاماً تقريباً. وسميت «كارنتينا» نسبةً إلى المستشفى العثماني الذي أقامته السلطنة على مقربة من «بور بيروت»، وفيه حَجْرٌ صحي لمعاينة القادمين من البواخر. ومن كان مصاباً بمرض أو وباء يُحجَر عليه أربعين يوماً.
«نحن اسمنا عرب المدوّر لا المسلخ، ونحن لبنانيون أباً عن جد»، يقول حسين، الذي يعمل جزاراً في إحدى ملاحم المسلخ. حسين واحد من قلّة عادت إلى المنطقة بعد الحرب الأهلية اللبنانية، وقد ورث المهنة عن أجداده. أما عرب المدور الآخرون، أي الأكثرية، فهُجّروا من بيوتهم في بيروت ـــ وتركوا وراءهم أكثر من 375 عقاراً في المنطقة «ما إلن صحاب»ـــ إلى خلدة ومحيطها قبل أن تهجّر سوليدير و«الحريريّة السياسية» البيروتيين إلى الساحل الجنوبي.
تاريخ العرب مليء بالحزن والجور. تكفي العودة إلى الحرب لتتبّع مسار من الآلام والمظلومية رزحت تحتها الجماعة. وفي ذاكرة العرب، كثيرٌ من المساهمات في الحياة السياسية اللبنانية. لم يترك أحفاد أبي ذر الغفاري حزباً لبنانياً «وطنياً» يعتب عليهم، «منذ كان المسلخ والمدور تخاشيب، 90% من البيوت كانت تخاشيب»، يبتسم أبو رباح. في بداية انتشار الحزب السوري القومي الاجتماعي، انتمى العديد منهم إلى حزب أنطون سعادة في الثلاثينيات والأربعينيات. ومع بداية عصر جمال عبد الناصر، انتقل العرب إلى حزب حليفه كمال جنبلاط، وخاضوا ثورة 1958 كرفاق في الحزب التقدمي الاشتراكي. نظّم جنبلاط صفوف حزبه في المسلخ والكرنتينا والمدوّر، ليمتد أثر العلاقة القويّة جداً إلى عهد ابنه النائب وليد جنبلاط، وحتى يومنا هذا. ومع بداية الثورة الفلسطينية، التحق العرب بفصائل منظمة التحرير الفلسطينية.
مع اندلاع الحرب الأهلية، ذاق العرب قسوة المجازر والتهجير. باكورة تجارب حزب الكتائب اللبنانية في القتل والتجزير اختبرها في عرب المسلخ. ارتكب مسلّحو الكتائب المجزرة الأولى عام 1975، وقتلوا أكثر من 350 من السكان العرب في المنطقة، «قتلوا الكبير والصغير والمقمّط بالسرير» يقول أبو فهمي.
توالى القتل والذبح بعد معارك مخيّم تلّ الزعتر، فذبح الكتائبيون أكثر من 500 من أبناء العشائر في المسلخ والكرنتينا والدكوانة وسبنيه في بعبدا، ومن لم يمت بقي أكثر من خمسين يوماً تحت الحصار بلا طعام ولا ماء. «كان القناص الكتائبي يتلذذ بقتل من يحاول سحب الماء من الناعورة في وسط الحي، ومن تسقطه الرصاصة نسحبه بالحبل والشنكل»، من شدّة ذهول الحاضرين، يخيّل إليك أن الأحفاد لم يسمعوا قبلاً بهذه الوقائع، ولم يروا جدّهم كما يرونه الآن. وعلى انقاض البيوت التي سحقتها الجرافات وهجرت أهلها، بنت القوّات اللبنانية مجلسها الحربي.
مع ازدياد أعمال التهجير، فتح وليد جنبلاط فنادق الساحل الجنوبي لاستقبال النازحين، فسكنوا السييستا والسان سيمون والميرادور والبردويل بين الجناح وخلدة. ومن ثمّ بيوت المهجّرين المسيحيين.
انخرط العرب أكثر فأكثر في التنظيمات العسكرية. انتظموا في صفوف التنظيم الشعبي الناصري و«اتحاد قوى الشعب العامل» والاتحاد الاشتراكي العربي. أما الحزب التقدمي الاشتراكي، فقد خاض بالعرب معارك بيروت ضد حركة أمل، وضد المرابطون.
لا فضل لأحدٍ على العرب في موضوع التجنيس. في الأصل هم ليسوا مجنّسين. «العنصريون أو الأغبياء يقولون إننا مجنسون»، يقول الدكتور أحمد، أحد أبناء عرب المدوّر. لا فضل للرئيس رفيق الحريري، ولا للمير مجيد أرسلان أو ابنه النائب طلال، أو الوزير ميشال المرّ في حملات التجنيس ما بعد الطائف، ولا حتى لآل جنبلاط عموماً. فأرقام بعض سجلات العرب تبدأ بـ«1». حصلوا على الأوراق الثبوتية في الإحصاءات التي شملت اللبنانيين عهد الاحتلال الفرنسي، وآخرها كان في 1932.
تفاءل العرب، مع مجيء رفيق الحريري رئيساً للحكومة. وهم الذين لا يعرفون إن كانوا أقليّة في لبنان، أو جزءاً من الطائفة السنيّة. «إذا كنا أقلية، فلم لا نأخذ حصة الأقلية، على الأقل كالأرمن، الذين يبلغ عدد ناخبينا أكثر من عدد ناخبيهم؟ وإذا كنا جزءاً من الطائفة السنية فليعاملنا سياسيو السّنة على هذا الأساس» يقول أبو فهمي. وأبو فهمي على النقيض في السياسة من أبو رباح. أبو رباح مغرم بجنبلاط، «البيك لم يقصّر معنا، وما زال يقف إلى جانبنا منذ اغتيل والده»، ويقبل خيارات الحريري الابن السياسيّة، على الرغم من النقد اللاذع له، واقتناعه بأن سعد الحريري لا يستفيق على العرب إلّا وقت الانتخاب. يحمل إليهم مع موظفيه بشير عيتاني وقبله نجيب أبو مرعي وأبو علي البعاصيري أكياس المال، و«يا مين يشيل أصوات».
حتى مؤسس حزب الكتائب بيار الجميّل حصل على أصوات العرب. «فلتسألوا الراحل نصري معلوف وفؤاد بطرس كيف كانا يجولان على بيوتنا للحصول على الأصوات في دائرة الأشرفية، يومها كنّا أوادم»، والحديث لأبو رباح.
أما أبو فهمي، فهو «8 آذاري أصيل». يقول إن «وليد جنبلاط استعملنا في الماضي، وحاول استعمالنا في بداية معارك 7 أيار، ثم تقوقع في درزيته». وهذا لا يمنع أبو فهمي من «حكي ضميره»: «جنبلاط حمانا وقدم لنا المساعدات واحتضننا، ولكن عندما تصير القصة في التوظيف، يعود درزياً وينسى الاشتراكية، وآل الحريري استخدمونا أيضاً كأصوات لا أكثر».
لا وظائف للعرب عند التيار إذاً، سوى شركة «سيكيور بلس» (الأمنية المنحلّة). ولا وظائف من حصتهم في الدولة سوى للبيروتيين «الأقحاح». أما العرب، فهم أصوات مضمونة، حصلوا على الخدمات أو لم يحصلوا، شملتهم ملفات عودة المهجّرين أو لم تشملهم، وهي لم تشملهم طبعاً. ومع ذلك، «يحلب العرب صافي» مع الحريري الابن ويحصل على أصواتهم. إلا أن أصوات العرب في المدوّر وحدها تبلغ 5500 صوت، بحسب إحصاء إحدى الجمعيات التابعة للعرب في خلدة في انتخابات 2009، و9000 آلاف صوت في دوائر بيروت الأخرى.
أبعد ما يكون العرب عن السلفية والتعصّب. حتى إن الدين يشكّل حالة حزبية أكثر منها متشدّدة. وعلى ما يقوله أحد المشايخ، فإن أغلب العلماء والشيوخ العرب الذين درسوا إنما درسوا عند جمعية المشاريع الخيريّة الإسلامية. وحتى اليوم، مع تحوّلات العالم العربي، لا تبدو حالة التشدد الدينية ظاهرة عند العرب، مع أن عدداً منهم بدأ بالانخراط في جوّ الجماعة الإسلامية وبعض التيارات السلفيّة، ومَن أشطر من الشيخ أحمد الأسير في كسب قلوب المسلمين السنّة، «عرباً كانوا أو فينيقيين»؟
لا يقف حزب الله بعيداً عن العرب. «بوصلة العرب فلسطين والمقاومة دائماً»، يقول أحد ضباط سرايا المقاومة اللبنانية من العرب. العرب كانوا دائماً مع المقاومة، وكانت بعض الشخصيّات تعقد لقاءات دائمة مع السيد عبّاس الموسوي الذي تربّى في النبعة بين العشائر. كذلك، جاور السيّد حسن نصر الله العرب في طفولته وقطن مع أهله حي شرشبوك (مكانه «فوروم دو بيروت» اليوم). واستطاع الحزب بعد حوادث السابع من أيار، الدخول إلى قلب عدد من العشائر والعائلات العربية، فانضوى كثيرون من عرب المسلخ في صفوف سرايا المقاومة. إلا أن علاقة العرب بسرايا المقاومة ظهرت إلى العلن بعد وفاة أبو علي خضر، أحد قادة السرايا اللافتين قبل سنوات.
العرب ليسوا «مشكلجيي» ولا مرتزقة ولا مجنّسين، هم لبنانيون لديهم فورة علمية يخوضها الشباب منهم، مهندسين وأطباء ومحامين. ويحق لهم لحين تقرر الدولة اللبنانية تصنيفهم، أن يحصلوا على عضو مجلس بلدي في بيروت أسوة بغيرهم، أو حتى نائب في بيروت ووادي خالد وزحلة والبقاع الغربي. وأكثر ما يحتاجه العرب هو مرجعيّة سياسية، فلا سعد الحريري سينصفهم، ولا وليد جنبلاط سيدخلهم طائفة الموحدين الدروز.

  • شارك الخبر