مقالات مختارة - وسام سعادة
"الواجب الجهادي": "الفتنة المذهبية" بوصفها "ضرورة أممية"
الأربعاء ١٥ تشرين الأول ٢٠١٢ - 08:32
المستقبل
في تفسير موقف "الهمج الثقافي للممانعة"، المؤيّد علناً أو خلسة للنظام البعثي المحتضر دموياً في سوريا، تبرز مقاربتان. تتباعدان في الظاهر، ثم تلتقيان.
واحدة، تعطي الأولوية لـ"الغريزة الاثنية" أو "المذهبية" في شكلها البدائي والأكثر احتقاناً في معشر هذا "الهمج الثقافي". بحسب هذه المقاربة، لا داعي للغوص عميقاً. هؤلاء يكتبون ويلعلعون ضدّ الثورة السورية، أو ينكرون وجودها من الأساس، أو يتذاكون فيتضامنون معها اشتراطاً، وبشكل تعجيزي، إنما وراء ذلك كله ثمّة معطى اثني مذهبي مستنفر. تماثل مرضيّ مع الهوية الفئوية التي صار يتلطى النظام البعثي وراءها بشكل سافر، بعد أن عمل في السابق على التستر عليها، بشكل عنيف ومحموم.
وبهذا المعنى، وبما أن الأكثرية السورية الثائرة سنية مذهبياً، يجد هؤلاء أنه من الطبيعي التضامن مع النظام الأقلوي، أو على الأقل، الطعن في مشروعية الثورة وحقيقتها وأفقها.
ولهان الأمر، وفقاً لهذه المقاربة، لو أن حالات "الهمج الثقافي" تعبّر على المكشوف عن توترها البدائي، لدوافع اثنية وطائفية ومذهبية وأقلوية. لكن هذه الحالات تعمد بدلاً من ذلك الى تزيين كل ما هو بدائي ومحلّي وضيّق بهالة أممية، وتحديثية، وعلمانوية، ومعادية للامبريالية والرأسمالية. بكل ما يجرّه ذلك من متاهة: فـ"حزب الله" يتحدّث عن "الواجب الجهادي" الذي يعيد مقاتليه نعوشاً من سوريا الى لبنان، أما "الهمج الثقافي للممانعة" فيترجم على الفور "الواجب الجهادي" بأنه "واجب أخلاقي" و"واجب علماني"، ضد المتطرفين والإلغائيين، بل، يصير "واجباً علمياً" عند "ماركسيي الممانعة" الذين يرون أنه في الظاهر، وفي الظاهر فقط، يذبح بشار الأسد أطفال الشعب السوري، فهذا عندهم معطى جزئي وآني وعابر ومضخّم، أما في الباطن، فإن بشار الأسد يدخل الامبريالية في معمعة، ويحرجها أمام الشعوب، ويذلّها بإظهارها مغلولة اليدين، حائرة، خائفة منه ومن الثائرين عليه في آن، تكاد أن تتوسّل اليه.
في المقابل، تقفز الى الضوء مقاربة أخرى. تذكّر أنه في الحالة العراقية، فإن هذا "الهمج الثقافي" نفسه الذي يفتئت على الشعب السوري الثائر الآن بدعوى أنه شعب تفشّى فيه "تنظيم القاعدة" بشكل أو بآخر، كان قسم كبير منهم نظر الى أعمال الجهاديين التكفيريين في عراق ما بعد الاحتلال على أنها "مقاومة".
بل إن تعريف ما كان يحصل في العراق من ضمن ثنائية "احتلال ومقاومة" وفي تعمية على أي بعد مذهبي أو مناطقي، كان سمة "الخطاب الممانع" و"المعادي للامبريالية" في السنوات التالية للاحتلال الأميركيّ.
بالتالي، العلاقة بين الارتداد الى الهوية المذهبية النافرة وبين تبرير العنف باسم المقاومة، كما تبدو في الحالة السورية، كأن تجد مقابلاً لها في التعمية على الهوية المذهبية، لتسويق نظرة ثنائية، مانوية، الى عراق ما بعد صدّام: احتلال ومقاومة.
في الحالتين، ثمة علاقة غير سوية أبداً، بل مرضية، بين الانتماءات والدوافع الاثنية والمذهبية للممانعين من ناحية، وبين تبرير العنف تحت يافطة "مقاومة الامبريالية" من ناحية أخرى.
في السنوات التالية لاحتلال العراق، كان "حزب الله" اللبناني، على ما كان يتهمه به من هم في السلطة ذات الطابع الفئوي في بغداد اليوم، يصدّر خبراته لتنظيمات جهادية تكفيرية، تدرج تحت مسمى تنظيم القاعدة، وإن كانت لقيادته مواقف رافضة للتفجيرات الدموية الأكثر إثارة للفتنة.
أما اليوم، فحتى أكثر المراقبين تأثراً بالإسلاموفوبيا في الغرب، ومحاباة لبشار الأسد، لا يستطيع أن يقول إن التكفيرية الجهادية لها في سوريا اليوم عشر ما كان لها من حضور في العراق بعد احتلاله.
مع ذلك، "حزب الله" كان بالكاد يراها في العراق، ويصرّ على أن ما يحصل فيه هو أساساً مواجهة بين مقاومة واحتلال، حتى لو انحرفت أحياناً.
في حين أن "حزب الله" نفسه لا يرى في الثورة السورية غير تكفيريين جهاديين، ولأجل ذلك يحرّك "الواجب الجهادي" ضدّهم!!
لأجل ذلك، يطرح السؤال، لأي المقاربتين الرجحان؟ لتلك التي تفسّر سلوكيات "الهمج الثقافي" دعماً للنظام المحتضر دموياً تبعاً لاندفاعات "مذهبية" حتى لو تستّرت بالدفاع عن التحديث العلماني بوجه "التكفيريين" والبعد الأممي بوجه "الامبريالية والبترودولار"، أم لتلك التي تعود فتتذكّر أن مثقفي الممانعة كانوا يتعاملون مع المذهبية الدموية الصارخة في الحالة العراقية من ضمن ثنائية مقاومة واحتلال؟
في إحدى هاتين الحالتين يجري وصف "الفتنة" بأنها "مقاومة" (الحال العراقية) وفي الحالة الثانية يجري وصف "الثورة" على أنها "فتنة" فتحرّك "المقاومة" واجبها "الجهادي" ضدها: السلاح لحماية خطوط إمداد المقاومة بالسلاح، الفتنة لمحاصرة الفتنة.
المشترك إذاً بين الحالتين، هو اعتباطية التوزيع الرمزي للأدوار على أساس ثنائية مقاومة، وغير مقاومة. وعدم الاكتراث بمصير مئات الآلاف من الناس الذين يتعرّضون لاضطهاد بدافع مذهبي أو اثني، لأن هذا الاكتراث يطعن بسردية المقاومة.
مع ذلك، فإن هذا المشترك، لا يتناقض، بل يتماشى، مع واقع انزياح خطاب الممانعة أكثر فأكثر ليصير متمركزاً حول "تحالف الأقليات" تحت قيادة "الولي الفقيه"، بحيث أن ما كان يمكن أن يقوم به بعض المثقفين الممانعين من "التجرّد" عن أصولهم الاثنية والطائفية ما عاد متيسّراً أو ضرورياً في الوقت الحالي، إلا في الحالات الكاريكاتورية التي تتكلّف بنفسها كما قلنا بترجمة "الواجب الجهادي" واجباً "علمانياً"، ضد المجموعات التكفيرية، و"تقدّمياً" ضد الرجعية العربية، و"تحررياً" ضد الامبريالية الذليلة بعد أن قتل عشرات الآلاف من السوريين ولم تستطع فعل شيء، و"تحريرياً" ضد الصهيونية، لأن مشاركة نخبة "حزب الله" الميدانية في نواحي حمص، هي توطئة للقسم الثاني من روائع "الغالبون": ملحمة تحرير الجليل.
لماذا؟ لأنه في منطق الممانعة، "حزب الله" يعوّل على أن "الفتنة" سجال، تجيء وتذهب، وأنه حالما يجد نفسه في مواجهة العدو الإسرائيلي، حتى تغفر له الجماهير العربية جميع خطاياه في سوريا. هذا بالتحديد هو منطق الممانعة.