hit counter script

- سينتيا بدران

أعزّائي المثقّفون... عذراً ولكن

الخميس ١٥ تشرين الأول ٢٠١٢ - 07:14

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

عذرا،ً ولكن من أنتم؟
فكرٌ غريبٌ مضاءٌ في السماء العربية ظهر في أوراق الصّحف، كالأجسام الغريبة التي تطلّ فجأةً في السماء، فنندهش بوجودها، ونظلّ نراقب نورها بفرحٍ لأنّنا نشهد على وجودها، وبخوفٍ لأننا لا ندرك مسارها.
تخاطبون الشعب العربي، ظنّاً منكم، أنه سوف يعي ما تقولون. غير أنّه، ومن الأصل، لا يسمعكم؛ لا بل إنه لا يدرك حتّى بوجودكم. فلو علم أنّكم أحياء، لكان قرأ كلماتكم؛ وبعد القراءة، لأعاد القراءة مرّةً ثانية، وثالثة حتّى يستوعب ما كتبتموه. وعند التّمكّن من الفهم، لكان تصرّف عكس ما يقوم به الآن. لأنّ من يتابع تحليلاتكم، يدرك أنّها أكثر من مقالاتٍ تدرس الواقع، إنها ثورة. فكلّ كلمة مصفوفة بإتقانٍ قرب صديقتها، وكلّ جملةٍ تحمل في مضمونها روح الإنتفاضة على الظّلم والإستبداد، لتنقل الى القارئ المنطق والوعي، فيدرك التفكير عن معرفة لا عن جهلٍ. ولكن هل من شعبٍ يقرأ؟
إنّ الشّعب ينادي بالحرية، أما أنتم فتجسّدونها بأفكاركم. هو يصرخ للديموقراطية، أما أنتم فتمثّلونها من خلال الرّد على مقالات بعضكم البعض. إذ لكلٍّ منكم رؤيته، ولكلّ رؤية مساحتها الخاصة للتعبير عمّا تشاهده.
تخاطبون الرؤساء بلغةٍ غريبة لم يتعلّموها في مدارسهم الوراثية من جهة، والطائفية المذهبية من جهة أخرى. هم تربّوا في قصور آبائهم الملوك، وأنتم ترعرعتم في شوارع المدينة. هم سهروا يراقبون تصرفات الرؤساء ليقلّدونها فيما بعد، وأنتم جالستم القمر تقرأون كتب الفلاسفة والمفكّرين لتكملوا مسيرتهم. هم وصلوا الى مقاعدهم لأنّها كانت مكتوبةٌ بإسمهم، أما أنتم فلا مقاعد لكم لأنّ أفكاركم تجول في كل الأماكن. هم رؤساء مؤقّتون على بلادهم، أما أنتم فملوك أفكاركم الى الأبد.

عذراً، ولكن كيف تفكّرون؟
تُعرّفون كلّ مصطلحٍ تعريفاً دقيقاً، فيُحدَّد إطار استخدامه ليخدم المعنى الصحيح. تنسبون الأقوال الى مصادر موثوقة ومؤرّخة. تجمعون الأحداث وتربطونها بعضها ببعضٍ بخيوط الوقائع لا التّوقعات والتنبؤات. وإن استشرفتم المستقبل، تبنون آراءكم تحت عنوان النقد والتحليل، لا كخبرٍ مؤكّد. فلكل نصٍّ تعابيره الدقيقة والواضحة، ذات المعنى الواحد والصريح.
على عكس ما نراه في الشوارع العربية اليوم: شعاراتٌ ينادون بها ويكتبونها على لوحاتهم، دون معرفة معانيها وأبعادها؛ أخبارٌ تُطلق أين ما كان وعلى كلّ من كان. لا أحداث مؤكّدة ولا شائعاتٌ منفية، يختلط الواقع بالتّمنيات والرّغبات، ويحقّق الجهل والبغض حلمه، حتى أصبحت الحياة اليومية كابوساً، بتنا نعتاد عليه ونتاءلف مع وجوده، كأنه أمرٌ طبيعيّ أو كأنّ مسار الدنيا وجِب عليه أن يكون على هذه الحال.
على الشّاشات تظهر صور رجال السياسة، يقطعون الوعود للتحسين والتغيير، وفي زوايا الطرقات تقبع أفكاركم بانتظار من ينفض عنها غبار المعارك الدّموية.

عذراً، ولكن لماذا تفكّرون؟
هل لتأمين حقوق الإنسان؟ وعن أي إنسانٍ تتكلّمون؟ فهل "الإنسان" لا يزال موجوداً؟
بين الأنانية والتّعصب، بين الإستسلام للغرائز والسعي وراء المصالح، بين حبّ السلطة وعشق المال، ضاع الإنسان وسط كائناتٍ متنوعة خُلِقت لتتكايف مع بعضها، على أن يكون هو القائد والمنظم والخادم؛ فبات الأغرب والأكثر ضياعاً.
أوليس "الإنسان"، مثنّى لكلمة "أنس"، التي تعني "ضدّ الوحشة"؟ غير أنّ هذا الفرد تخلّى عن جوهره وبات من أنصار العزلة التي تنتج عن ضياع الهوية. أو ليست الكلمة نفسها مشتقة من فعل "أنِس" أو "أنُس" وهو ضدّ فعل "توحّش"؟ إلّا أنّ هذا الفرد ذاته، غيّر شكله وبدّل صفاته، حتى بات وحشاً يتلذّذ بطعم الكراهية والطّمع .

عذراً، ولكن الى من تتوجّهون؟
الى شعبٍ لا يعرف من الديمقراطية إلّا صندوق الإقتراع. ولا يدرك من الحريّة الّا قول الشتائم في العلن. ولا يرى في الأديان إلّا مجموعة طوائف تتصارع لامتلاك السلطة.
فالديمقراطية نمط حياةٍ، من يرثه يعتاد عليه، ومن يعاني للوصول إليه يتمسّك به لأنه يدرك قيمته. والحرية شغف كل إنسان، تتجسّد في الفكر والتصرفات والمشاعر. أما الأديان، فإن آمن كل فردٍ بمعتقدات طائفته، لما كان يعني له حبّ الوصول الى السلطة، لأنّه لأدرك انّ لا سلطة خارج إرادة الله.
للأسف إنّ شعبنا العربي يعيش ديمقراطية العبودية: يبكي المصائب والشهداء ثم ينساها عندما يُعوّض عليه بالمال، يعيش الفقر والعوز ولا ينزل الى الشارع إلّا عندما يُطلب منه ذلك، فيصرخ وينادي بإسقاط النظام دون أن يُدرك ماذا سيأتي بعده.

عذراً، ولكن ماذا بعد؟
ماذا إن لم تسمع شعوبنا العربية أقوالكم؟ ماذا إن لم يحوّل حكّامنا كلماتكم الى أفعالٍ، لنبدأ الخطوة الأولى في مسيرة الديمقراطية؟
ففي "ربيعنا" العربي اليوم، تنبت في حقوله أسلحةُ القتال، وشمس صيفه ستحرق جثث المقاتلين، أبرياء كانوا أم مذنبين؛ أمّا رياح الخريف ستؤجّج الحريق أكثر فأكثر ليمتدّ الى جميع الحقول، حتّى تبكي السماء في الشتاء على أمّةٍ كانت تدعى الأمّة العربية.
وعندها ستَرْثونها أنتم بفكركم العظيم. هل ستبكونها؟ هل ستعاتبونها؟
مهما ستكون أقوالكم في الربيع المقبل، وإن كانت أمّتنا ساكنة السماء مع الملائكة، أو لا تزال شعوباً تبيت على الأرض، كونوا على يقين أنّكم جسر عبورٍ لكلّ من يريد أن يرتقي الى الأعلى، فتحيّةً لكم أعزّائي المثقفين.

 

  • شارك الخبر