hit counter script

كلمتا البابا بنديكتوس السادس عشر والرئيس ميشال سليمان من القصر الجمهوري في بعبدا

السبت ١٥ أيلول ٢٠١٢ - 16:59

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

جدد رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان توافق اللبنانيين على "ضرورة تجنب التداعيات السلبية لما يحصل حولنا من أحداث، وتحييد بلادنا عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية، من دون أن ننأى بنفسنا، عن واجب التزام القضايا العربية المحقة، وعلى رأسها قضية فلسطين، وقرارات الشرعية الدولية، مدرجا في هذا الاطار ايلاء لبنان كل اهتمام ورعاية ممكنة لعشرات آلاف النازحين السوريين".

واعتبر ان "الديموقراطية لا يمكن ان تستقيم ما لم يتحقق إشراك المكونات البشرية والحضارية المتنوعة للعالم العربي، ومن بينها المكون المسيحي في الحياة السياسية وفي إدارة الشأن العام، ودفع المجتمع الدولي إلى فرض حل عادل وشامل لكافة أوجه الصراع العربي الإسرائيلي ولقضية فلسطين، وفق جدول زمني ملزم محدد، يحول دون تكريس أي أمر واقع يهدف إلى إقامة المستوطنات غير الشرعية وتهويد القدس وتكريس الاحتلال"، لافتا الى ان "مثل هذا الحل، لا يمكن أن يكتسب صفة الثبات، إذا لم يستند إلى القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، ومرجعية مؤتمر مدريد، والمبادرة العربية للسلام".

واذ عدد "التحديات التي تعترض لبنان ومنها العمل على تنفيذ القرار 1701 بكل مندرجاته، وثني إسرائيل عن خروقاتها وتهديداتها المتمادية ضد لبنان، ومواجهة خطر الإرهاب والدسائس والفتن، والحؤول دون أي شكل من أشكال توطين اللاجئين الفلسطينيين على أراضينا"، فانه اعتبر ان "دعم الكرسي الرسولي للبنان يرتدي في هذا الظرف بالذات أهمية قصوى، لما يمثله قداسة البابا والكرسي الرسولي من مكانة روحية سامية ومن سلطة معنوية مؤثرة".

اما قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر، فاعتبر ان "خصوصية الشرق الأوسط تكمن في التمازج العريق لمكونات مختلفة، مشددا على ان المجتمع المتعدد لا يوجد إلا عبر الإحترام المتبادل، والرغبة في معرفة الآخر والحوار المتواصل".

واذ ابدى اعتقاده ان "الله اختار هذه المنطقة لكي تكون نموذجية، لكي تشهد أمام العالم أنه بإمكان الإنسان أن يعيش عمليا رغبته في السلام والمصالحة"، فانه دعا "لكي ندافع عن الحياة إذا كنا نريد السلام"، مشددا على ان "الاختلافات الثقافية والاجتماعية والدينية يجب أن تؤدي إلى عيش نوع جديد من الاخوة، حيث ما يوحد هو المعنى المشترك لعظمة كل شخص، ولكونه عطية لنفسه وللآخرين وللبشرية".

ونوه بان "المسيحية والاسلام تعيشان في لبنان في نفس الفسحة منذ قرون"، لافتا الى "التأملات عن السلام والمجتمع وكرامة الانسان، وعن قيم الأسرة والحياة، وعن الحوار والتضامن يجب أن تعاش فيه"، داعيا اياه الى "أن يكون مثالا"، قائلا: "أيها السياسيون والدبلوماسيون ورجالات الدين، ويا رجال ونساء عالم الثقافة، أدعوكم إذا أن تشهدوا بشجاعةٍ ، في وقتهِ وبالرغم من العراقيل المحيطة بكم، أن اللهَ يريدُ السلام، الله يستودعُنا السلام".

كلام الحبر الاعظم والرئيس سليمان جاء في خلال اللقاء الجامع الذي عقد في صالون 25 ايار في القصر الجمهوري في بعبدا في اليوم الثاني من زيارة البابا الى لبنان.

الوصول الى بعبدا
وكان موكب قداسة البابا وصل الى بعبدا، عند العاشرة قبل ظهر اليوم، في "البابا موبيلي" حيث استقبلته الحشود الشعبية على جانبي الطريق المؤدي الى القصر حاملة اعلاما لبنان وفاتيكانية وصورا للبابا ولرئيس الجمهورية، فيما ازدانت الطرق بالشعارات المرحبة بقداسته وزيارته التاريخية للبنان.

ورافقت الموكب البابوي فرقة من خيالة قوى الامن الداخلي، فيما كان البابا يبارك الحشود التي حضرت لاستقباله.
كما قدمت ثلاث فرق فولكلورية هي فرقة هياكل بعلبك وفرقة بعلبك وفرقة دير الاحمر لوحات تراثية راقصة في الباحة الخارجية للقصر الجمهوري تكريما للضيف الكبير.

ولدى وصول قداسة البابا الى البهو الرئيسي للقصر، كان في استقباله الرئيس سليمان وعقيلته السيدة وفاء. وبعدما قدم اليه حفيدا رئيس الجمهورية باقة من الورد، بارك البابا القربان قبل ان يرافقه رئيس الجمهورية وسط صفين من رماحة الحرس الجمهوري الى "صالون السفراء".

لقاء مع البابا
وبعد لقاء ثنائي بين البابا والرئيس سليمان، قدم رئيس الجمهورية افراد عائلته الى الحبر الاعظم، لتلتقط من ثم الصورة التذكارية.

السجل الذهبي وتبادل الهدايا
ووقع البابا على السجل الذهبي للقصر، ليتم بعد ذلك تبادل للهدايا حيث قدم الرئيس سليمان للحبر الاعظم عملات نقدية على شكل صليب يعود تاريخها الى عدة حضارات اجتمعت على ارض لبنان ابتداء من القرن الاول وحتى القرن العاشر وترمز الى ان لبنان ملتقى حوار الحضارات عبر التاريخ، فيما قدم اليه البابا مخطوطة اصلية قديمة مكتوبة بخط يد احد رسل السيد المسيح..

ثم قدم الرئيس سليمان الى الحبر الاعظم الاصدار الاول من الطابع التذكاري الخاص بالزيارة.

لقاء مع الرئيس بري
وفي ختام اللقاء، غادر رئيس الجمهورية صالون السفراء ليعقد لقاء بين قداسة البابا ورئيس مجلس النواب نبيه بري الذي قدم اليه فيما بعد عقيلته. والتقطت بعد ذلك الصورة التذكارية.

لقاء مع الرئيس ميقاتي
وبعد مغادرة الرئيس بري وعقيلته القاعة، عقد لقاء بين البابا ورئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، انضمت اليه فيما بعد عائلة رئيس مجلس الوزراء. وبعد التقاط الصورة التذكارية، تم تبادل للهدايا، حيث قدم الرئيس ميقاتي للبابا صليبا مذهبا يعود الى القرن الثامن عشر فيما قدم اليه البابا مسابح.

لقاء رؤساء الطوائف الاسلامية
ثم عقد لقاء بين قداسة البابا ورؤساء الطوائف الاسلامية، حضره مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني، نائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الامير قبلان، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز نعيم حسن ورئيس المجلس الاسلامي العلوي الشيخ أسد عاصي، والبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي وامين سر الكرسي الرسولي ترسيسيو برتوني ورئيس المجلس البابوي للحوار بين الاديان جان لوي توران والسفير البابوي المونسنيور غبريال كاتشيا، تناول الحوار بين الاديان والخطوات المنوي تنفيذها لوضع مضمون الارشاد الرسولي موضع التنفيذ. والتقطت في ختام اللقاء الصورة التذكارية.

زرع ارزة
وتوجه الحبر الاعظم يرافقه رئيس الجمهورية بعد ذلك، الى حديقة الرؤساء حيث زرع ارزة تحمل اسمه وتاريخ الزيارة تخليدا للمناسبة.

لقاء جامع
ثم انتقل البابا ورئيس الجمهورية الى صالون 25 ايار حيث عقد لقاء جامع حضره السيدة الاولى، الرئيسان بري وميقاتي وعقيلتاهما، الرئيس امين الجميل وعقيلته، عقيلات رؤساء الجمهورية السابقين صولانج الجميل ومنى الهراوي ونايلة معوض، رؤساء الحكومة السابقون: سليم الحص، النائب العماد ميشال عون وعقيلته، وفؤاد السنيورة وعقيلته، نائبا رئيسي مجلسي النواب والوزراء وعقيلتاهما، رؤساء الطوائف الروحية في لبنان، وزراء ونواب حاليون وسابقون، اعضاء السلك الديبلوماسي والقنصلي، قادة الاجهزة الامنية والعسكرية، اعضاء السلك القضائي وكبار الشخصيات والفاعليات السياسية والاقتصادية والنقابية.

كلمة سليمان
في بداية اللقاء، القى رئيس الجمهورية كلمة رحب فيها بالبابا وجاء فيها: "يرتدي هذا اللقاء الجامع، في مشهديته ومقاصده، كما وفي رمزية المكان وخصوصية الزمان، أهمية استثنائية وبعدا تاريخيا مميزا.

تأتون إلى لبنان حاملين رسالة محبة وسلام، في خطى سلفكم الكبير الطوباوي يوحنا بولس الثاني، الذي أهدى اللبنانيين في العاشر من أيار 1997 إرشادا رسوليا، ملؤه الحكمة والرؤيوية والرجاء : "رجاء جديد للبنان"، وأكد فيه بعبارات ملهمة بأن "لبنان هو أكثر من بلد، أنه رسالة حرية وعيش مشترك للشرق والغرب".

في هذه المرحلة المفصلية من حياتنا الوطنية، التي ينزلق فيها البعض من حولنا نحو منطق العنف ومخاطر التشرذم والتباعد الطائفي والمذهبي، وتسعى فيه الشعوب العربية، بتعثر، لتلمس مستقبلها وخياراتها الفضلى، فإننا على يقين، صاحب القداسة، أن زيارتكم للبنان ستساهم بإعادة البريق إلى وهج رسالته، وتسليط الضوء على موقعه ودوره الرائد وسط محيطه، كوطن للحوار والتلاقي والتوافق، وكنموذج حي ومركز دولي مرتجى، لحوار الحضارات والثقافات والديانات، على ما دعوت إليه في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

لقد تعاهدنا منذ البدء، صاحب القداسة، على العيش معا، في كنف الدولة، في إطار نظام ديموقراطي يضمن حرية الرأي، ويسمح بالتداول الدوري والسلمي للسلطة، وقد جاء في المادة التاسعة من الدستور اللبناني "أن حرية الاعتقاد في لبنان مطلقة وبأن الدولة تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها".

والعيش معا بالنسبة للبنانيين، ليس معادلة جامدة، بل تكامل إنساني بناء، وتفاعل فكري وثقافي منتج، وإغناء متبادل وانتماء، وهو في صلب فلسفة كيانهم الوطني، يستند إلى إرادة سياسية حرة ومتجددة، ويترجم على الصعيد العملي، في مشاركة جميع الطوائف والمجموعات المكونة للمجتمع، في إدارة الشأن العام، بصورة متكافئة ومتوازنة، وصولا إلى الدولة المدنية الضامنة لحقوق جميع المواطنين من دون تمايز أو تفاضل.

هذا جوهر ما توافقنا ميثاقيا عليه، وما نعمل دوما على تطوير صيغته وترسيخ ركائزه من طريق التفهم والتفاهم والحوار، بالرغم مما يعترضنا أحيانا من عثرات ويصيبنا ظرفيا من كبوات.

نعلم قداسة الحبر الأعظم، أن لا مصالح اقتصادية أو مادية للكرسي الرسولي، في رسم سياساته وتوجهاته، بل حرص موضوعي وغيور على الخير العام وعلى كرامة الإنسان وهنائه.

لذا تحمل رسالتكم إلى لبنان، وانطلاقا منه إلى المنطقة بأكملها، بمسيحييها وبمسلميها، وبجميع مكوناتها الدينية والطائفية والاجتماعية، وإلى المنتشرين اللبنانيين والمشرقيين في كل أصقاع الدنيا ورحابها، مضمونا نقيا منزها عن الأطماع والأهواء، وخصوصا من خلال الإرشاد الرسولي للسنيودوس الخاص لمجمع الأساقفة من أجل الشرق الأوسط، الذي وقعتم عليه بعد ظهر البارحة، وهو إرشاد يحمل من المضامين والتوصيات والعبر ما يصلح أن يكون نبراسا وهادياإلى زمن بعيد آت، وخريطة طريق للمسيحيين المشرقيين ولكل سالك لطريق الشراكة والمحبة والعدالة والسلام.

من هذا المنطلق نضع تجربتنا اللبنانية الفريدة، تحت نظركم الكريم، وهي تجربة لم تنل منها الصعاب التي امتحنت إرادتنا بالعيش معا، خلال العقود المنصرمة، وإن كانت التحديات ما زالت تعترض مسيرتنا الوطنية، في عالم متقلب ومتداخل، ومن بين هذه التحديات، العمل على تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 بكل مندرجاته، وثني إسرائيل عن خروقاتها وتهديداتها المتمادية ضد لبنان، ومواجهة خطر الإرهاب والدسائس والفتن، والحؤول دون أي شكل من أشكال توطين اللاجئين الفلسطينيين على أراضينا،ليس فقط لتعارض التوطين مع أحكام الدستور اللبناني، ومع مقتضيات وفاقنا الوطني، بل كذلك لتناقضه أساسا مع حق هؤلاء اللاجئين الطبيعي في العودة إلى أرضهم وديارهم الأصلية، إضافة إلى ضرورة تحقيق التنمية المتوازنة، وحماية البيئة، وتوفير فرص عمل للمواطنين، ولا سيما منه فئة الشباب ، لتعزيز محفزات تمسكهم بأرضهم وهويتهم وتراثهم.

ويرتدي دعمكم للبنان في هذا الظرف بالذات صاحب القداسة، أهمية قصوى، لما تمثلونه ويمثله الكرسي الرسولي من مكانة روحية سامية ومن سلطة معنوية مؤثرة.

كذلك سرنا أن يكون مجلس الأمن الدولي، ومن بعده مجلس الاتحاد الأوروبي، والعديد من المرجعيات الروحية والدول، أشادوا بالدعوة الى استئناف أعمال هيئة الحوار، "وبإعلان بعبدا" الذي أعاد تأكيد وصوغ مرتكزات وفاقنا الوطني، وأكدوا دعمهم لكل ما يعزز فرص الاستقرار.
قداسة الحبر الأعظم، لقد توافقنا في لبنان على ضرورة تجنب التداعيات السلبية الممكنة لما يحصل حولنا من أحداث، وعلى تحييد بلادنا عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية، درءا للمخاطر، وحرصا منا على استقرارنا ووحدتنا الوطنية، من دون أن ننأى بنفسنا بطبيعة الحال، عن واجب التزام القضايا العربية المحقة، وعلى رأسها قضية فلسطين، وقرارات الشرعية الدولية، وكل شأن إنساني.

من هنا إيلاؤنا كل اهتمام ورعاية ممكنة، لعشرات آلاف النازحين السوريين الذين وفدوا إلى الأراضي اللبنانية، نتيجة خوف أو حاجة أو ضيق. كذلك أعلنا منذ البدء أن لبنان يتمنى للشعوب العربية الشقيقة، وللشعب السوري بالذات، ما تريده لنفسها من إصلاح وحرية وديموقراطية، وأن تتمكن من تحقيق مطالبها المشروعة بالطرق الحوارية والسياسية المناسبة، بعيدا من أي شكل من أشكال العنف والإكراه.

إلا أن هذه الديموقراطية، على ما يفترض أن توفره من استقرار وهناء، لا يمكنها أن تستقيم وتترسخ، من منظار المنطق والعدل، إذا لم يتيسر لها تحقيق المستلزمات الآتية:

أولا: إشراك المكونات البشرية والحضارية المتنوعة للعالم العربي، ومن بينها المكون المسيحي المتجذر في هذا الشرق منذ أكثر من ألفي سنة متتالية، في الحياة السياسية وفي إدارة الشأن العام، بصرف النظر عن النسب العددية، على قاعدة المواطنة والتنوع من ضمن الوحدة. كما أشرت إلى ذلك في كلمتي أمام القمة العربية في بغداد بتاريخ 29 آذار الفائت، فتطمئن هذه المجموعات المكونة للذات العربية بمختلف أبعادها الثقافية والفكرية إلى وجودها وحضورها وتساهم بصورة أفضل في نهضة وتقدم بلدانها.

ثانيا: تحقيق العدالة الاجتماعية، والتزام الحريات العامة وحقوق الإنسان، ومن ضمنها حقوق المرأة، وإعطاء الشبيبة دورها وحقها في عملية صناعة القرار.

ثالثا: الالتزام بصورة أكثر عمقا وتبصرا بموضوع الحوار بين الحضارات والثقافات والديانات، بما في ذلك الحوار بين الطوائف والمذاهب، على قاعدة الاحترام المتبادل في وجه محاولات التفرقة بعيدا عن منطق التقوقع أو التصادم والغلبة.

رابعا: دفع المجتمع الدولي إلى فرض حل عادل وشامل لكافة أوجه الصراع العربي الإسرائيلي ولقضية فلسطين، بما في ذلك مسألة الوضع الخاص لمدينة القدس وللأماكن المقدسة، وفق جدول زمني ملزم محدد، يحول دون تكريس أي أمر واقع يهدف إلى إقامة المستوطنات غير الشرعية وتهويد القدس وتكريس الاحتلال. ومثل هذا الحل، لا يمكن أن يكتسب صفة الثبات، إذا لم يستند إلى القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، ومرجعية مؤتمر مدريد، والمبادرة العربية للسلام التي أقرت في بيروت منذ عقد من الزمن.

وتبقى القدس دائما وأبدا في وجداننا، زهرة المدائن، ومدينة السلام ونقطة الجذب التي من المفترض أن يستقيم فيها العدل، فتسير إليها جميع الشعوب المؤمنة وتلتقي، على قاعدة الألفة والمحبة والإيمان، في حضرة الإله الواحد الأحد.

قداسة الحبر الأعظم، في وجه المآسي والمحن، وعند كل امتحان للطباع والإرادات، بإمكان المرء أن يتفرج ويتنحى جانبا، أو أن يهرب ويبتعد، أو أن ينخرط بشجاعة في الحركة التضامنية الكريمة، من أجل بلسمة الجراح، وإعادة بناء ما تهدم، ووصل ما انقطع، أو مواساة من أصابه سوء أو ضرر.

دعوتي إلى المواطنين، وإلى فئة الشباب منهم بشكل خاص، في حضوركم وبمباركتكم صاحب القداسة، إلى ألا ينزلقوا يوما نحو الانكفاء أو الانعزال أو التطرف، بل أن يقدموا على العمل الهادف لتثمير مواهبهم وخدمة الخير العام، وأن يلتزموا دوما روح الانفتاح والعطاء التي تميزهم، وأن يحافظوا على إيمانهم وذواتهم الإنسانية، وعلى مجمل القيم الروحية والعائلية التي سمحت لهم بأن يغالبوا الصعاب وأن يفوزوا بالكثير من نعم الله، فيبقى لهم ومعهم لبنان، واحة لحوار الأفكار والقلوب، ومنارة فكر إيجابي، وجسر تواصل وتكامل، ورسالة حرية وعيش مشترك للشرق والغرب.
ومع ذلك فإننا نعي أن الديموقراطية والعدالة والسلام واحترام الرأي الآخر، وروح المحبة والحوار، هي ثقافة قبل كل شيء، ونهج تفكير وحياة، وهي مسؤولية تربوية وإعلامية ومجتمعية تقع على عاتق القيادات والهيئات الروحية والزمنية على السواء، في عالم مترابط بات يغلب عليه الشك والاضطراب، فيما تتعثر فيه الجهود الهادفة إلى إقامة نظام سياسي واقتصادي عالمي جديد أكثر عدلا وإنصافا والتصاقا بالقيم.

يشرفنا قداسة الحبر الأعظم أن نرحب بكم تكرارا، وأن نصغي بإمعان إلى الرسالة المحورية التي رغبتم في توجيهها من هذا الموقع بالذات، غداة توقيعكم على الإرشاد الرسولي. عشتم، عاش الكرسي الرسولي وعاش لبنان".

البابا
ثم القى البابا الكلمة الآتية: "فخامة رئيس الجمهورية، حضرات السيدات والسادة ممثلي السلطات البرلمانية، والحكومية والمؤسساتية والسياسية في لبنان، حضرات السيدات والسادة رؤساء البعثات الدبلوماسية، أصحاب الغبطة، السادة المسؤولين الدينيين، الأخوة الأعزاء في الأسقفية، سيداتي وسادتي، أيها الأصدقاء الأعزاء، بكلمات السيد المسيح هذه، أريد أن أحيكم وأشكركم، "سلامي أعطيكم"، (يو 14,27) على استقبالكم وعلى حضوركم. فخامة الرئيس، إني أشكركم لا فقط على كلماتكم القلبية، بل أيضا لسماحكم بهذا اللقاء. منذ قليل قمنا معا بزراعة أرزة لبنان، رمز بلدكم الجميل. وعند رؤيتي لهذه الشجيرة وللرعاية التي ستحتاجها حتى تنمو فروعها المهيبة، فكرت في بلدكم وفي مصيره، في اللبنانيين وآمالهم، في جميع الأشخاص في هذه المنطقة من العالم والذي يبدو أنهم يعيشون آلام المخاض بدون نهاية. عندها طلبت من الله أن يبارككم، ويبارك لبنان، ويبارك كل سكان هذه المنطقة التي رأت ولادة ديانات كبرى وثقافات نبيلة. لماذا اختار الله هذه المنطقة؟ ولماذا تعيش في جو عاصف؟ لقد اختارها الله، على ما أعتقد، لكي تكون نموذجية، لكي تشهد أمام العالم أنه بإمكان الإنسان أن يعيش عمليا رغبته في السلام والمصالحة! هذا التطلع مدون منذ الأزل في مخطط الله، الذي طبعه في قلب الإنسان. فإنني أرغب أن أتوقف هنا لأكلمكم عن السلام، لأن يسوع قال: "سلامي أعطيكم".

أي بلد هو غني قبل كل شيء بالأشخاص الذين يحيون على أرضه. يتوقف على كل شخص منهم وعليهم كلهم مجتمعين مستقبله وقدرته على أن يتجند من أجل السلام. إلتزام كهذا لن يكون ممكنا إلا داخل مجتمع موحد. إنما الوحدة لا تعني التماثل. إن تماسك المجتمع يؤمن عبر الإحترام المستقر لكرامة كل شخص والمشاركة المسؤولة لكل إنسان، كل بحسب قدراته، بإستعمال أفضل ما لديه. لتوفير الدينامكية الضرورية لبناء وتعزيز السلام، يجب الرجوع بلا كلل لركائز الكائن البشري. كرامة الإنسان غير منفصلة عن الطابع المقدس للحياة الموهوبة من الخالق. في تصميم الله، كل شخص فريد وغير قابل للاستبدال. يأتي إلى العالم داخل أسرة، هي مكانه الأول للأنسنة، وهي، قبل كل شيء، مربيته الأولى على السلام. إذا لبناء السلام، يجب أن يتركز انتباهنا على الأسرة لتسهيل مهمتها، وذلك لدعمها، وبالتالي ترويج ثقافة الحياة في كل مكان. تعتمد فاعلية أي التزام من أجل السلام على الإدراك الذي يملكه العالم للحياة البشرية. إذا كنا نريد السلام، فلندافع عن الحياة! هذا المنطق لا يستبعد الحرب والأعمال الإرهابية فقط، بل يراعي حياة الكائن البشرية، الخليقة التي أرادها الله. اللامبالاة أو الإنكار لما يشكل طبيعية الانسان الحقيقية يمنع احترام تلك القواعد التي هي التشريع الطبيعي المدون في القلب الإنساني (رسالة البابا بندكتس السادس عشر بمناسبة يوم السلام العالمي 2007، رقم 3). إن عظمة كل شخص وسبب وجوده تكمن في الله وحده. لهذا السبب، فالاعتراف غير المشروط بكرامة كل كائن بشري، كل واحد منا، كما الإعتراف بطابع الحياة المقدس يتطلبان مسؤولية الجميع أمام الله. إذا علينا أن نوحد جهودنا لتطوير انثروبولوجيا سليمة تشمل وحدة الشخص. بدونها، لا يمكن بناء السلام الحقيقي.

رغم أنها تظهر جليا في البلدان التي تعرف صراعات مسلحة، فإن الهجمات على سلامة وحياة الأشخاص موجودة أيضا في بلدان أخرى. إن البطالة والفقر والفساد والإدمان بمختلف أشكاله، والاستغلال والاتجار بكل أصنافه، والإرهاب، تسبب، مع ألم ضحاياها غير المقبول، إضعافا للمقدرة البشرية. يريد المنطق الاقتصادي والمالي بلا هوادة أن يفرض نيره، وأن يقدم الامتلاك على الكينونة. لكن فقدان أي حياة بشرية هي خسارة للبشرية بأسرها. لأن البشرية هي عائلة كبيرة وجميعنا مسؤولون عنها. بعض الايدولوجيات في تشكيكها- بشكل مباشر أو غير مباشر، أو حتى قانوني- في القيمة الثابتة لكل شخص ولأساس العائلة الطبيعي تنسف أسس المجتمع. يجب أن ننتبه لهذه التطاولات على بناء وتناغم العيش معا. وحده التضامن الفعال يشكل الترياق ضد كل هذا. التضامن من أجل رفض ما يعيق احترام كل حياة بشرية، التضامن لمساندة السياسات والمبادرات بطريقة مخلصة وعادلة التي تهدف لتوحيد الشعوب. من الطيب رؤية أفعال التعاون والحوار الحقيقي تؤسس لطريقة جديدة للحياة معا. إن نوعية أفضل للحياة وللتطور الشامل غير ممكنة، إلا في مقاسمة الخيرات والمسؤوليات، ضمن إحترام هوية كل فرد. لكن أسلوب حياة مشترك وهادئ ودينامي كهذا لا يمكنه أن يكون بدون الثقة في الآخر، مهما كان هذا الآخر. اليوم، الاختلافات الثقافية والاجتماعية والدينية يجب أن تؤدي إلى عيش نوع جديد من الأخوة، حيث ما يوحد بالتأكيد هو المعنى المشترك لعظمة كل شخص، ولكونه عطية لنفسه وللآخرين وللبشرية. في هذا يوجد طريق السلام، في هذا يكمن الالتزام المطلوب منا، في هذا يقطن التوجه الذي يجب أن يقود الخيارات السياسية والاقتصادية، في كل المستويات وعلى نطاق عالمي.

إذا الواجب الأول لفتح مستقبل سلام للأجيال القادمة، هو التربية على السلام لبناء ثقافة سلام. التربية، في الأسرة أو في المدرسة، يجب أن تكون وقبل كل شيء تربية على القيم الروحية التي تعطي عملية نقل المعرفة والتقاليد الخاصة بثقافة ما، معناها وقوتها. يمتلك الفكر البشري الحس الفطري لتذوق الجمال والخير والحق. إنه الختم الإلهي، بصمة الله فيها! من هذا الشوق الكوني ينبع إدراك أخلاقي ثابت وصادق، يضع دائما الشخص في المركز. غير أن الإنسان يتجه نحو الخير بملء حريته فقط، لأن "كرامة الإنسان تتطلب منه أن يتصرف استنادا إلى إختيار حر وواع مدفوعا باقتناع شخصي يحدد موقفه، لا تحت الدوافع الغريزية أو الضغط الخارجي" (فرح ورجاء، 17). واجب التربية هو مرافقة نضج المقدرة على القيام باختيارات حرة وصحيحة، والتمكن من الذهاب ضد تيار الآراء الرائجة والموضة والايدولوجيات السياسية والدينية. تأسيس ثقافة السلام يتطلب هذا الثمن! يتحتم بالطبع حظر كل عنف شفوي أو جسدي. لأنه دائما تطاول على الكرامة الإنسانية، كرامة المعتدي وكرامة الضحية. بالمقابل، من خلال تقدير الأعمال السلمية وتألقها من أجل الخير العام، نخلق أيضا الاهتمام بالسلام. كما يشهد التاريخ، لفتات سلام كهذه لديها دور مهم في الحياة الاجتماعية والوطنية والدولية. التربية على السلام ستشكل كذلك رجالا ونساء كرماء وحقانيين، ومنتبهين للجميع، ومهتمين خاصة بالأشخاص الأكثر ضعفا. أفكار السلام، وكلمات السلام، وأفعال السلام تخلق مناخا من الإحترام والإستقامة والمودة، حيث يمكن الاعتراف بالأخطاء والإهانات بالحق للتقدم سوية نحو المصالحة. ليفكر رجالات الدولة والمسؤولون الدينيون مليا في ذلك!

يجب أن ندرك جيدا أن الشر ليس قوة مجهولة تتصرف في العالم بطريقة غير شخصية أو حتمية. الشر، الشيطان، يمر من خلال الحرية البشرية، عبر استخدامه لحريتنا. يبحث عن حليف، الإنسان. إن الشر يحتاج إليه ليتفشى. ومن ثم، بعد أن أهان الوصية الأولى، أي محبة الله، يأتي لإفساد الوصية الثانية، أي محبة القريب. معه تختفي محبة القريب لمصلحة الكذب والحسد والكراهية والموت. إنما من الممكن عدم ترك الشر يغلبنا، بل أن ننتصر عليه بالخير (راجع: روم 12,21). إننا إلى توبة القلب هذه لمدعوون. بدونها، ال"إطلاقات" الإنسانية المرجوة جدا تخيب، لأنها تتحرك داخل الفسحة الضيقة المنسجمة مع ضيق أفق الإنسان، وقسوته، وعدم تساهله، ومحاباته، ورغباته في الثأر، ودوافعه للموت. إن التحول في عمق النفس والقلب ضروري من أجل إيجاد بصيرة أكيدة وحيادية موثوقة والمعنى العميق للعدالة وللخير العام. نظرة جديدة وأكثر حرية ستمكن من التحليل والتساؤل حول الأنظمة الإنسانية التي تؤدي إلى طرق مسدودة، من أجل التقدم مع الأخذ بالإعتبار الماضي لكي لا نكرره أبدا مع تأثيراته المدمرة. إن هذه التوبة المطلوبة رائعة لأنها تفتح إمكانات بتعويلها على الموارد غير المحدودة التي تقطن قلب كثير من الرجال والنساء الراغبين في العيش بسلام والمستعدين للتطوع من أجل السلام. إنها وبشكل خاص متطلبة: لأنه يقتضي أن نقول لا للثأر، أن نعترف بأخطائنا، ونقبل الأعذار بدون التماسها، وأخيرا أن نغفر. لأن وحدها المغفرة الممنوحة والمقبولة تضع الأساسات الدائمة للمصالحة وللسلام للجميع (راجع: رم 12,16ب.18).

عندئذ فقط يمكن أن ينمو التفاهم الجيد بين الثقافات والأديان، والتقدير بدون استعلاء طرف ما على بقية الأطراف، واحترام حقوق كل منها. في لبنان، المسيحية والإسلام يعيشان في نفس الفسحة منذ قرون. ليس نادرا أن نجد أشخاصا من الديانتين يحملون إسم العائلة نفسها. إذا كان ذلك ممكنا في عائلة واحدة، لماذا لا يكون على صعيد المجتمع بأكمله؟ خصوصية الشرق الأوسط تكمن في التمازج العريق لمكونات مختلفة. إن المجتمع المتعدد لا يوجد إلا عبر الإحترام المتبادل، والرغبة في معرفة الآخر والحوار المتواصل. إن الحوار غير ممكن إلا في الوعي أن هناك قيما مشتركة بين جميع الثقافات الكبرى، لأنها متأصلة داخل طبيعة الشخص البشري. هذه القيم التي هي كالركيزة، تفسر الأوجه الأصيلة والمميزة للبشرية. إنها تنتمي لحقوق كل كائن بشري. ففي تأكيد وجودها، تقدم مختلف الديانات مساهمة قاطعة. ليس علينا أن ننسى أن الحرية الدينية هي الحق الأساسي الذي تركن عليه حقوق عديدة الأخرى. المجاهرة بالديانة وعيشها بحرية بدون أن يعرض الشخص حياته وحريته للخطر يجب أن يكون ممكنا للجميع. فقدان أو إضعاف هذه الحرية يحرم الشخص من الحق المقدس في عيش حياة كاملة على المستوى الروحي. إن ما يسمى بالتسامح لا يستأصل التعصب، إنه أحيانا يزيده. بدون الانفتاح على المتعالي الذي يسمح بإيجاد إجابات عن الأسئلة التي تثار في قلب الإنسان عن معنى الحياة وكيفية العيش وفقا للأخلاق، يصبح الإنسان عاجزا عن التحرك وفقا للعدالة وعن الالتزام في سبيل السلام. للحرية الدينية بعد إجتماعي وسياسي لا غنى عنه للسلام! إنها تروج لتعايش و حياة متناغمتين، من خلال الالتزام المشترك في خدمة القضايا النبيلة وعبر البحث عن الحقيقة التي لا تفرض نفسها من خلال العنف، إنما عبر "قوة الحقيقة نفسها" (كرامة الإنسان، 1)، هذه الحقيقة التي في الله. لأن المعتقد المعاش يقود دائما إلى المحبة. المعتقد الأصيل لا يمكن أن يقود إلى الموت. صانع السلام هو متواضع وبار. إذا للمؤمنين اليوم دور جوهري، وهو الشهادة للسلام الذي يأتي من الله وهو عطية تمنح للجميع في الحياة الشخصية والعائلية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية (راجع: متى 5، 9؛ عب 12، 14). تقاعس الأناس الصالحين عليه ألا يسمح للشر بأن ينتصر. الأسوأ هو عدم فعل اي شيء.

هذه التأملات القليلة عن السلام والمجتمع وكرامة الإنسان، وعن قيم الأسرة والحياة، وعن الحوار والتضامن لا يمكن أن تبقى مجرد مثل عليا معلنة. بل يمكن ويجب أن تعاش. نحن في لبنان وهنا يجب أن تعاش. لبنان مدعو، الآن وقبل أي وقت مضى، أن يكون مثالا. أيها السياسيون والدبلوماسيون ورجالات الدين، ويا رجال ونساء عالم الثقافة، أدعوكم إذا أن تشهدوا بشجاعة، في وقته، وبالرغم من العراقيل المحيطة بكم، أن الله يريد السلام، الله يستودعنا السلام. "سلامي أعطيكم" يقول لنا المسيح (يو 14,27)! فليبارككم الله! شكرا!".

المغادرة
ثم غادر قداسة البابا صالون 25 أيار يرافقه سليمان وعقيلته وسط صفين من الرماحة حيث ودع رئيس الجمهورية وعقيلته الحبر الاعظم قبل مغادرته القصر.

  • شارك الخبر