hit counter script

- جهاد الملاح

هنا... تاهت الشياطين

الجمعة ١٥ تموز ٢٠١٢ - 08:07

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

جلسنا معاً، أصدقاء من دول عربية عدة، نقلّب صور 2011 و2012، ونتنقلّ بين أحداث شعوب ملأت المدن تظاهرات وشعارات، ورفعت قبضاتها عالياً عند مفترق التاريخ العربي، وعلى أول الطريق الطويل والصعب نحو أنظمة تقدّس الإنسان وتحترم المواطن وتحفظ السيادة الحقيقية وتجلب الازدهار.
لكنّ مشاهد الشعوب كانت تُسمعنا شعارات تتناقض إلى حدّ الأعجوبة. فبنغازي تهتف بأناشيد الكرامة والحرية وتقف في صفّ الغرب و"حلف شمال الأطلسي". والمعارضة اليمنية، كما في تونس، تنتفض ضد النظام ومن يدعمه من دول الغرب. أما في سورية، فتخوض المعارضة معركة إلى جانب الغرب ضد النظام، بينما يواجه شعب مصر النظام وأسياده في الغرب.
التفت الأصدقاء إلى بعضهم البعض بضحكات خفيفة وبإيماءات كأنها تقول أن بعض التناقض لا يفسد الودّ العربي. ففي النهاية، اجتمعت الشعوب التي أسقطت أنظمتها، على شعور النصر. استحضرت في الحديث عندئذ، يوم 25 أيار من العام 2000، حين صمت فجأة ضجيج 55 عاماً من قرارات الجامعة العربية، وارتفع صوت الأرض وتشابكت الأيدي وتعانقت العيون، فسبقت الأقدام نبضات القلب إلى الجنوب.
ووسط الحديث عن الجنوب، دفعتني الحشرية إلى سؤال أصدقائي عن فلسطين وإسرائيل، إذ سمعت البعض يجزم بحزم أن ما يجري ليس ربيعاً عربياً بل انتفاضات من صناعة الغرب وإسرائيل و"الأطلسي". ففي جنوب لبنان، كما في فلسطين المنسيّة، اعتادت أغاني الحرية أن تصدح فقط ضد إسرائيل والغرب المؤيد لها، وبالتالي، من يطلب الغرب و"الأطلسي"، يصبح معها.
ردّ صديقي المصري، السريع دائماً في استلام الحديث، "34 عاماً مرّت على كامب ديفيد، لم تتمكن من صناعة السلام على الصعيد الشعبي، فهذا أمر معلوم ولا يحتاج إلى شهادة من أحد. نحن لا ننسى فلسطين. ومع ذلك، إن أولويتي لم تكن إسرائيل، فمعركتي كانت مع نظام سرق سنين عمري، نظام رأيته يزيد الأحياء الفقيرة فقراً وينشر الفساد والبطالة ويمنع الحراك الاجتماعي والسياسي ويحرّم المبادرة الفردية، ويعتقل ويعذّب، ويفجّر ويقتل ليجعل الدين يقاتل الدين".
دار بين الأصدقاء نقاش إيجابي بنّاء عن فلسطين، إلا أن أفكاراً كثيرة كانت تدور في خاطري عن معنى وجود قضية عربية مركزية. فهكذا قضية تقتضي على الأقلّ وجود شعوب عربية موحدة في الأولويات الأساسية، ونظام عربي إقليمي متماسك إلى حد ما. لكن لا أولويات الشعوب العربية موحدة، ولا الدول العربية تشكل نظاماً إقليمياً. وعلى كل حال، فإن هذه الدول تنازلت عن عروبة فلسطين منذ أواخر العام 1946، قبل نحو عام ونصف من إعلان دولة إسرائيل.
اللافت أن الصديق الليبي لم يشارك في النقاش، فمازحته قائلاً: أبعدَكم معمر القذافي أربعين سنة عنّا، فلم نعرف عنكم شيئاً، فهل ستظلون بعيدين؟ ألا تشاركنا الحديث؟
نظر إليّ مبتسماً، وفي عينيه ألف دمعة، وفي ملامح وجهه طيبة شعب لم تعرفها ملامح القذافي، وقال: "لم أنسَ فلسطين، لكني اجتهدت كثيراً لأبقى أتذكرها. فذاكرتي اعتادت أن تزدحم بمشاهد من وطني، وأن تلتقط في كل نهار صوراً جديدة من منزلي وشارعي ومدينتي، عن شبان قُتلوا وجيران عذّبوا وفتيات اغتصبن وأطفال أحرقوا. وكان عقلي يجهد لتكديس مشاهد لم تعد تسعها الذاكرة، عن أصدقاء قُطّعت أوصالهم بالحديد والنار، لأنهم تركوا أفكاراً بسيطة وأحاسيس إنسانية تداعب شفاههم أو تطلّ من عيونهم. اعذروني، كنت منشغلاً بالموت وبسماع أنين الأمهات، كان العدو أقرب إليّ من مسافة بلادي عن فلسطين، كان في مدرستنا وجامعتنا وشارعنا وغرف نومنا وكان لا يترك مكاناً في ذاكرتي لأي شيء وأي قضية إلا لصوره ومشاهده وسجونه. وإن عاد بي الزمن إلى أيام ثورة 2011، فسأستعين بقوات الأطلسي مجدداً ومجدداً".
قبل أن ينتهي النقاش، تذكرت كيف أن بعض اللبنانيين يردّد: نحن نتعامل مع الشيطان ضد إسرائيل، وفهمت لماذا أصبح بعض الشعب العربي مستعداً للتعامل مع الشيطان ضد أنظمته. فلكلّ تجاربه وخصمه وعدوه، ولكلّ شياطينه المشروعة، التي تختلف عن شياطين غيره.
ورغم كل ذلك، قد تكون القضية واحدة، لكن إسرائيل تحتلّ الأرض هنا، وإسرائيل أخرى، أو ربما ذاتها، تحتلّ القصور هناك. والنتيجة أن العرب أخوة في الرصاص، منهم من يواجه الرصاص الحي، ومنهم من يواجه رصاص الديمقراطية الزائفة والفساد القاتل والمستقبل المجهول، ومنهم أبناء "وطن النجوم" لبنان الذين يواجِهون الرصاصين معاً.
 

  • شارك الخبر