hit counter script

رسالة البطريرك غريغوريوس الثَّالث لمناسبة عيد الفصح

الخميس ١٥ نيسان ٢٠١٢ - 10:21

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

إلى الإخوة السَّادة المطارنة، أعضاء المجمع المقدَّس الموقَّرين
وسائر أبنائنا وبناتنا بالمسيحِ يسوع، إكليروسًا وشعبًا،
المدعوِّين قدِّيسين، مع جميع الذين يَدعُون باسم ربِّنا يسوع المسيح، ربِّهم وربِّنا
نعمةٌ لكم وسلامٌ من الله أبينا، والرَّبِّ يسوع المسيح (اكور: 1-3).

المحبَّة أقوى من الموت

المسيح قام! حقًّا قام!
رسالة الفصح 2012
المحبَّة أقوى من الموت
ومن يحبّ لا يموت

"المحبَّة أقوى من الموت... ومن يحبّ لا يموت! هذه صرخةٌ عيد القيامة المجيدة! وهذا معنى هتاف نشيد القيامة الخالد: "المسيح قام!".
 إنَّه المسيح الذي نحتفل بقيامته المجيدة، وهي موضوع إيماننا: "إذ إنَّه إذا لم يقم المسيح فإيمانكم باطل وأنتم بعدُ في خطاياكم" (1كور 15: 17). وهو الذي قال عنه الإنجيلي يوحنَّا الحبيب: "هكذا أحبَّ الله العالم، حتَّى إنَّه بذل ابنه الحبيب لكي لا يموت كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديَّة" (يو 3: 16). وهو الذي قال: "إن آمن أحدٌ بي، وإن مات فسيحيا" (يو 11: 25). وهو الذي قال: "من يؤمن بي تجري من جوفه أنهار ماءٍ ينبع إلى الحياة الأبديَّة" (يوحنَّا 7: 31).
 قيامة السَّيِّد المسيح، هي علامة انتصار محبَّته. إنَّها غلبة الحياة على الموت. غلبة محبَّة الله للبشر على الموت. وهذا ما هتف به القدِّيس يوحنَّا فم الذهب في عظته يوم أحد الفصح المجيد التي نترنَّم بها في عيد القيامة: "لا يخشينَّ الموتَ أحد. لأنَّ موت المخلِّص حرَّرنا! أين شوكتكَ يا موت؟ أين غلبتكِ يا جحيم؟ قام المسيح وأنتِ صُرعتِ. قام المسيح والحياة انتظمت".
 هذا إيماننا، بالرَّغم من واقع حياتنا المؤلم، وبالرَّغم من ضعفنا. إنَّنا كلُّنا ضعفاء أمام الألم والمرض والشكّ والإحباط والوحدة وخيبة الأمل، وتسلُّط الأشرار، وجلبة السِّلاح، ومشاهد الحرب والعنف والقتل والتدمير والتفجير والأعمال الإجراميَّة، والمؤامرات، والدَّسائس، وكلّ قوى الشرّ المحيطة بنا من كلِّ حدبٍ وصوب.
 من المؤسف أنَّ هذه الأمور كلّها واقعٌ في بلدانٍ من العالم العربي، بخاصَّةٍ سورية.
 تلاميذ السَّيِّد المسيح خافوا عندما أخبرهم يسوع المعلِّم عن آلامه وموته: "لا بدَّ لابن البشر أن يُكابد هذه الآلام ثمَّ يدخل إلى مجده" (لوقا 24: 26). فيقول له بطرس: "حاشى لكَ يا ربّ" (متَّى 16: 22). والسَّيِّد المسيح نفسه نازَعَ وعرِق دمًا في بستان الزيتون قبيل آلامه وموته. وكان يُصلِّي هكذا: "يا أبتاه! إذا أمكن أن تَعبرَ عنِّي هذه الكأس. ولكن لا تكن مشيئتي بل مشيئتك" (متَّى 26: 42).
 ضعف الرُّسل أمام آلام المسيح وموته، ولكنَّ محبَّتهم للمسيح ومحبَّة المسيح لهم، أعطتهم أملاً جديدًا، لأنَّه قال لهم: "أنا معكم إلى انقضاء الدَّهر" (متَّى 28: 20). وهو الذي قوَّاهم بمحبَّته، وصرَّح بها قبيل آلامه، وقال لهم: "لا أدعكم يتامى! إنِّ آتي إليكم" (يو 14: 18). وقال لهم: "الآب يُحبُّكم لأنَّكم أحببتموني" (يو 16: 27). بهذه المحبَّة أقام السَّيِّد المسيح حبيبه لعازر (يو 11: 23).
وعبَّر يوحنَّا عن محبَّة يسوع التي هي أقوى من الموت، قائلاً: "ودمع يسوع" (يو 11: 35)، وقال الحاضرون أمام هذا المشهد: "أُنظروا كيف كان يُحبُّه" (يو 11: 36).
عيد القيامة يدعونا إلى الإيمان والرَّجاء والمحبَّة. لا بل كلُّ أحدٍ هو أحدُ القيامة، حسب تقليدنا الشرقي، وهو دعوةٌ إلى الإيمان والرَّجاء والمحبَّة.
لقاء الرَّبِّ يسوع القائم من بين الأموات يُنعش فينا هذه المحبَّة الأقوى من الموت.
هذه الاعتبارات ليست "أفيونًا" ولا مُخدِّرًا ولا هروبًا أمام واقع عالمنا، وبخاصَّةٍ في الشرق الأوسط وبخاصَّةٍ في سورية. بل هذا يساعدنا لكي نتَّخذ من الضعف قوَّةً وأملاً ورجاء.
وبهذا المعنى قال قداسة البابا بندكتوس السَّادس عشر أمام آلام إفريقيا، ولدى زيارته لها في تشرين الثاني 2011:
"الكنيسة لا تُقدِّمُ حلولاً تقنيَّة، ولا تفرضُ أيَّ حلٍّ سياسيّ، بل تردِّد: لا تخافوا! فإنَّ البشريَّة ليست وحدها أمام تحدِّيات العالم. فإنَّ الله حاضر! هذا هو نداء الرَّجاء! إنَّه رجاءٌ مولِّدٌ للقوَّة. ويَشحذُ الفكر ويُعطي للإرادة كلَّ قوَّتها. كان رئيس أساقفة تولوز (فرنسا) الكاردينال سالياج يقول: أن ترجو لا يعني أنَّك تستسلم، بل هذا يعني أنَّك تضاعف نشاطك".
وهكذا فإنَّ الكنيسة تواكب الدَّولة في رسالتها، إذ تشير بدون ملل دائمًا إلى الجوهري الله والإنسان. الكنيسة تريد بطريقةٍ واضحة وبدون خوف أن تقوم برسالتها العظيمة بأن تكون كنيسةً مربِّيةً وشافية ومُصلِّية (راجع لو 8:1 1). وتدلُّ دائمًا أين هو الله! (راجع متَّى 6: 21). وأين هو الإنسان الحقيقي! (راجع متَّى 20: 26، ويو 19: 5). إنَّ فقدان الأمل هو أنانيَّة. وأمَّا الرَّجاء فشراكة! أليس هذا طريقًا رائعًا يُقدَّمُ لنا؟ إنَّني أدعو جميع المسؤولين السِّياسيين والاقتصاديين، والعالم الأكاديمي الجامعي، وعالم الثقافة، وأقول لهم: "كونوا زارعي الأمل والرَّجاء!" (خطاب قداسة البابا بندكتوس السَّادس عشر في كوتونو، إفريقيا، في 19 تشرين الثاني 2011).
المحبَّة أقوى من الموت!
ومن علائم المحبَّة إنَّها شراكة. يقول بولس الرَّسول: "إذا تألَّم عضوٌ تألَّمت معه سائر الأعضاء" (1كور 21: 26). والشراكة تعني التضامن، خاصَّةً في وقت الضِّيق والشدَّة والألم والمرض.
وبهذا المعنى أنقل مقطعًا ورد في رسالة الميلاد التي وجَّهها إليَّ رئيس أساقفة كنتربري الأنجليكاني وليم روان:
"على مدى الإثني عشر شهرًا الماضية (عام 2011)، شعر كثيرون بأنَّها أوقات "زعزعة الأمم": الأحداث الصَّاخبة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الأزمة الاقتصاديَّة في أوروبا ولا شكَّ أيضًا في أميركا الشماليَّة. كلُّ هذه الأمور ذكَّرتنا كم أنَّ بُنياتٍ كثيرةً هي واهية هشَّة وسريعةُ العطب. وكنَّا نظنُّ أنَّها مؤمَّنة ثابتة! إنَّ هوياتنا السِّياسيَّة وضماناتنا الماليَّة هي أيضًا واهية وهشَّة وسريعة العطب. لا مفرَّ من أن نتساءَل: ما هو الأمر غير الواهي وغير الهشّ وغير سريع العطب فينا؟.
"أمام هذا الواقع، علينا أن نتأمَّل في جملةٍ استعملها كتَّابٌ ومفكِّرون في السَّنوات الأخيرة: نحن مدعوون أن نختبر "التضامن في الزعزعة!"، وهذا يعني علينا أن نعترف بالعلاقة القائمة بين جميع الذين وصلوا إلى القناعة كم أنَّهم واهون وهشُّون وسريعو العطب، وكم أنَّ العالم غيرُ آمن!.
"أن نكتشف الهشاشة والوهن وسرعة العطب المشتركة بيننا وفي كلِّ واحدٍ منَّا، هو تضامن عميق جدًّا. وهو كفيلٌ بأن يجعلنا نتغلَّب على الكثير الكثير من الشكّ والرَّيبة والخوف في حياتنا!... إنَّها لمفارقةٌ كبرى وتناقض فاضح، أنَّ الأمر الذي لا يتغيَّر فينا هو هشاشتنا ووهننا وسرعة عطبنا".
التعبير عن التضامن أمام هشاشتنا ووهننا وسرعة عطبنا، هو المحبَّة! وهذا ما يقوله بولس الرَّسول: "إنَّه أخذ ضعفنا" (متَّى 8: 17). فالمحبَّة تستر جمًّا من الخطايا (1بط 4: 8). "وحيث كثرَت الخطيئة فاضت النِّعمة" (رومانيُّون 5: 20).
قبل القيامة حدثت زلزلةٌ كبيرة، كما يروي الإنجيلي متَّى: "وإذا زلزالٌ عظيم قد حدث. لأنَّ ملاك الرَّبِّ انحدر من السَّماء، وأتى ودحرج الحجر وجلس عليه" (متَّى 28: 2).
أمام هذا الواقع نفهم أنَّ المحبَّة أقوى من الموت. وأمام أزمات عالمنا العربيّ (إنَّها زلزال) أمام زعزعة المحبَّة، والثقة بين شعوب عالمنا العربيّ... أمام أزمات العالم الماليَّة والاقتصاديَّة، وأمام أزمات القيَم والأخلاق، وقيَم الإيمان المقدَّس، نلجأ إلى المحبَّة التي هي حقًّا أقوى من الموت والعنف والدَّمار والقتل والاستغلال والتضليل الاقتصادي والسِّياسي والاجتماعي...
وهنا تبرز حقًّا قيمة التعليم عن المحبَّة كما ورد في الإنجيل المقدَّس وفي أعمال الرُّسل وفي رسائل القدِّيس بولس وباقي الرُّسل.
المحبَّة خلاص العالم! وفقدان المحبَّة هلاك العالم!
التخوُّفات والهواجس والثورات تغزو عالمنا العربيّ، ويشعر بها المسيحيُّون ربَّما أكثر من غيرهم، مع العلم أنَّنا كلِّنا، كما ذكرنا أعلاه، معرَّضون للوهن والهشاشة وسرعة العطب...
أمام كلِّ هذا، علينا نحن المسيحيين أن نجد مكاننا، ونكتشف دعوتنا، وما هو تدبير الله الخلاصيّ علينا. وعلينا بنوعٍ خاصّ أن نكون متضامنين مع هذا العالم العربيّ الذي هو عالمنا، وفيه جذورنا. وقد صنعنا الكثير الكثير من تاريخه وأدبه وحضارته. لا بل نحن بناة العروبة فيه وصانعوها ومفكِّروها ومنظِّروها وروَّادها وناشروها.
هذا هو الوقت الذي فيه على المسيحيين أن يكتشفوا قوَّة المحبَّة "التي أُفيضت في قلوبهم بالرُّوح القدس السَّاكن فيهم" (رومانيُّون 5: 5)، وقوَّةَ الإنجيل، وصحَّة تعاليم السَّيِّد المسيح! أجل عليهم أن يكتشفوا أنَّهم أبناء القيامة. وأنَّ قيامتهم هي التزامهم قضايا بلادهم وأوطانهم وشعوبهم ومواطنيهم جميعًا. فهم الذين يُسهمون في قيامة المجتمع. مع كونهم القطيع الصَّغير الذي أَوكل إليه السَّيِّد المسيح هذه الرِّسالة العظيمة الخالدة الثابتة غير المتزعزعة، ألا وهي دعوته لنا أن نكون نورًا وملحًا وخميرةً في مجتمعنا.
إنَّنا نشارك ونشترك مع أوطاننا في ضعفها وفي وهنها وهشاشتها وسرعة عطبها، لكي نكتشف معًا ونحقِّق معًا قوَّة القيامة، وآمال القيامة. وقد عبَّر بولس الرَّسول عن ذلك بما رواه عن خبرته مع يسوع: "تكفيكَ نعمتي، لأنَّ قوَّتي في الضُّعف تكمل!" (2كور 21: 9). وأنَّه "إذا كان إنسانُنا الظَّاهر يتهدَّم، فإنسانُنا الباطن يتجدَّد يومًا فيومًا" (2كور 4: 16).
وهنا أرى مناسبًا للوقت الحاضر وفي هذه الظروف الصَّعبة التي يعيشها عالمنا العربي، ويتساءَل المسيحيُّون بنوعٍ خاصّ، كما يتساءَل سائر المواطنين عن مصيرهم ومستقبلهم، أن أستذكر وثيقةً جميلةً جدًّا. إنَّها رسالةٌ من القرن الثاني الميلادي، وقد كتبها أحد المسيحيين الأبرار الأوائل دفاعًا عن المسيحيَّة، وإظهارًا لميزة وقوَّة الإيمان المسيحي، بخاصَّةٍ أمام تطوُّرات وتقلُّبات المجتمع، وأمام زعزعته وعطبه وهشاشته.
وقد وضع الكاتب ذلك في شكلِ خطابٍ موجَّهٍ إلى مواطنٍ يونانيٍّ وثنيّ ذي مركزٍ اجتماعيٍّ رفيعٍ مرموق اسمه ديوجينيس. ودُعيَت الوثيقة: "الرِّسالة إلى ديوجينيس".
في هذه الوثيقة والرِّسالة، الكثير الكثير من واقع مجتمعنا اليوم، ومن التوجُّهات والعِبَر والإرشادات للمسيحي كيف يتصرَّف، وما هو موقفه، وما يجب أن تكون ردَّةُ فعله أمام واقعه الرَّاهن.
أقتبسُ بعض المقاطع من الفصلَين الخامس والسَّادس من هذه الرِّسالة:

الفصل الخامس: سموُّ حياة المسيحيين
"لا يختلف المسيحيُّون عن غيرهم من أبناء البشر في الوطن أو اللُّغة أو العادات. في الحقيقة لا يقطن المسيحيُّون مدنًا خاصَّةً بهم وحدهم، ولا يتكلَّمون لغةً خاصَّةً بهم، ولا يعيشون عيشةً غريبةً أو شاذَّة. عقيدتهم ليست من تأليف أشخاص فضوليين أو خياليين أو متكبِّرين. ولا يؤيِّدون كغيرهم عقيدةً من صنع البشر. مع أنَّهم يسكنون في مدنٍ يونانيَّةٍ أو غير يونانيَّة، حسب خيار كلٍّ منهم، ويسلكون بموجب عادات البلد الذي يحلُّون فيه، ويتزيَّون بزيّ مواطنيهم ويأكلون من طعامهم ويتماشَون مع أساليب معيشة أقرانهم، فإنَّ أسلوب معيشتهم يستوجب الإعجاب والإقرار بأنَّه غير مُتوقَّع. تراهم يسكنون البلدان ولكنَّهم غرباء. هم يشتركون في كلِّ شيء كمواطنين ولكنَّهم يحتملون كلَّ ما يحتمله الغرباء. كلُّ بلدٍ أجنبيٍّ وطنٌ لهم، وكلُّ وطنٍ لهم بلدٌ غريب. يتزاوجون كغيرهم ويتوالدون، ولكنَّهم لا يُهملون أولادهم ولا يعرِّضونهم للموت. يفرشون طعامهم للجميع ولكنَّهم لا يشاركون فراشهم أحدًا. عائشون في الجسد ولكنَّهم لا يعيشون للجسد. يقضون أيَّامهم على الأرض ولكنَّهم مرتبطون بوطنٍ سماوي. يطيعون القوانين المرعيَّة لكنَّهم يتقيَّدون بأكثر منها في حياتهم الخصوصيَّة. يحبُّون جميع الناس رغم أنَّ الجميع يضطهدونهم. تراهم مجهولين ولكنَّهم مُدانون. يُماتون ولكنَّهم يُعادون إلى الحياة. فقراء ولكنَّهم يُغنون كثيرين. معوزين لكلِّ شيء ولكنَّهم ينعمون بكلِّ شيء. يُفترى عليهم ولكنَّهم يُبرَّرون، يُشتَمون ولكنَّهم يُبارِكون. يُهانون ولكنَّهم يُكرِمون الآخرين. يعملون الخير فيجازَون كأشرار. حينما يُعاقَبون بالموت يفرحون كأنَّهم يُقامون إلى الحياة. يحارَبون ويُضطَّهَدون. ومع ذلك فالذين يكرهونهم يعجزون عن ذكر سبب كراهيَّتهم لهم".

الفصل السَّادس: المسيحيُّون هم روح العالم
"باختصار فإنَّ المسيحيين بالنسبة إلى العالم كالرُّوح بالنسبة إلى الجسد. الرُّوح تمتدُّ إلى جميع أعضاء الجسد، والمسيحيُّون ينتشرون في جميع مدن العالم. كما أنَّ الرُّوح تسكن في الجسد و هي ليست منه، فهكذا المسيحيُّون يسكنون في العالم ولكنَّهم ليسوا منه. و كما أنَّ الرُّوح غير المنظورة تُحبَس في الجسد المنظور فهكذا المسيحيُّون يُعرفونَ مسيحيين في العالم ولكن تقواهم تظلُّ غير منظورة. و مع أنَّ النفس لا تُسيء الى الجسد فإنَّ الجسد يكرهها ويحاربها لأنَّها تُعيقه عن الانغماس في الملذَّات. كذلك لا يُسيءُ المسيحيُّون إلى العالم ولكنَّ العالم يكرههم لأنَّهم يقاومون ملذَّاته. و النفس تحبُّ الجسد الذي يكرهها كما أنَّ المسيحيين يحبُّون الذين يكرهونهم، و كما أنَّ النفس تُحبَس في الجسد ولكنَّها تحفظه، فإنَّ المسيحيين أيضًا يُحبَسون في العالم ولكنَّهم هم الذين يحفظون العالم. و كما أنَّ النفس الخالدة تسكن في خيمةٍ فانية، فإنَّ المسيحيين أيضًا يعيشون كغرباء بين الأشياء الفانية منتظرين الخلود في السَّماء...".
هذه الرِّسالة تُظهر قوَّة الإيمان المسيحي. فالإيمان هو أساس موقف المسيحي من مجتمعه، ومن التطوُّرات فيه، ومن التقلُّبات، ومن الدساتير والقوانين والشرائع، التي يمكن أن تشكِّل عائقًا أمام ممارسة إيمانه المقدَّس، ومنها مثلاً موقفه من الشريعة الإسلاميَّة والفقه الإسلامي، وبالتحديد مثلاً في المجتمع العربي ذي الأغلبيَّة المسلمة. فعليه أن يعرف كيف يتفاعل مع هذه الدَّساتير والشرائع، ويعرف كيف يجد المجال في إطار هذه الدَّساتير وفي ظلّ وحكم الشريعة غير المسيحيَّة والفقه الآخر... يجد المجال والمدى الواسع، لكي يكتشف كيف يمكنه أن يعيش إيمانه وقيَمه. لا بل يكتشف كيف يمكن أن يتفاعل مع هذه الدَّساتير وأنواع الفقه، ويتواصل معها، وكيف يُغنيها ويُطوِّرها ويُطعِّمها بقيَم إيمانه وتعاليم معلِّمه السَّيِّد المسيح في الإنجيل المقدَّس، ومبادئ كنيسته وقناعاته الإيمانيَّة والوطنيَّة والإنسانيَّة. ومن خلالها يتلاقى مع إخوته المواطنين الآخرين من غير دينه ومعتقده وحتَّى ثقافته. ويمكنه أن يحصل من خلالها ومن خلال انفتاحه، على الأمور التي تحمي عقيدته وأخلاقه وفقه كنيسته. وهذا عن طريق قوانين الأحوال الشخصيَّة، والنَّدوات الفكريَّة لأجل التطوُّر نحو المجتمع المدني مثلاً، ومبادئ العلمانيَّة المؤمنة...

لا تخفْ! المسيح قام!
هذه هي الكلمة المعزِّية القويَّة المنشِّطة المحِبَّة التي ردَّدها السَّيِّد المسيح لتلاميذه طيلة حياته. يوم ميلاده قالها الملائكة. وأثناء العاصفة على بحيرة طبريَّة، وفي ظروفٍ كثيرة... ونراها تتردَّد في الإنجيل المقدَّس في روايات ظهورات السَّيِّد المسيح بعد القيامة.
الملاك يقول للنِّسوة الخائفات النَّاظرات القبر الفارغ: "لا تخفن، إنَّكنَّ تطلبن يسوع النَّاصريَّ المصلوب! إنَّه ليس هو ههنا. فقد قام!" (متَّى 28: 5-6). ما عندنا يسوع مصلوب! عندنا يسوع قائم!.
ثمَّ يُلاقي يسوع النِّسوة الخائفات. فيقول لهنَّ: "سلامٌ لكنَّ!... لا تخفن!" (متَّى 28: 9-10).. وبدل الخوف، وفي قمَّة الخوف، يُعطي يسوع رسالةً لتلاميذه، ويطلب منهم أن يكتشفوا دعوتهم الجديدة: "إذهبوا إلى العالم أجمع! وتلمذوا كلَّ الأمم" (متَّى 28: 19).
والآية نفسها ترِد في مرقس: "لا تخفن! لا ترتعدن! يسوع قام!" (مرقس 16: 6). وهنا أيضًا وفي أشدِّ لحظات الشدَّة والإحباطـ، أعطى يسوع تلاميذه أصعب وأسمى وأدقّ وأخطر مهمَّة ورسالة: "إذهبوا إلى العالم أجمع! واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلِّها" (مرقس 16: 15). وللتلميذ الخائف الخائن والتائب بطرس زعيم الرُّسل، يُوكِلُ السَّيِّد المسيح أكبر وأعظم رسالةٍ قائلاً له: "إرعَ خرافي! إرعَ غنمي! لأنَّكَ تُحبُّني..." (يو 21: 15-17).
يقول القدِّيس أوغسطينوس: "أحببْ واعمل ما تشاء"، وأقول معقِّبًا: أحببْ، تُحقِّق ما تشاء! وتعمل ما تشاء!.

القطيع الصَّغير والدَّور الكبير
المحبَّة أقوى من الموت. المحبَّة هي القيامة. من الملفت أمران مترابطان: كان التعريف الخاصّ بالجماعات المسيحيَّة الأولى، والمسيحيين الأوائل، خاصَّةً في أنطاكية حيث دُعيَ المسيحيُّون أوَّلاً مسيحيين (أعمال 11: 26)، كان التعريف عنهم بهذه العبارة: "أُنظروا كيف يُحبُّون بعضهم بعضًا" (ترتليانوس، الدِّفاع 39: 7). وهذا تطبيقٌ عمليّ لما قاله لنا السَّيِّد المسيح: "بهذا يعرف النَّاس أنَّكم تلاميذي، إذا كنتم تُحبُّون بعضكم بعضًا" (يو 13: 35). أمَّا التعريف الآخر الثاني المرتبط بالأوَّل فهو اللَّقب الذي أُطلِقَ على المسيحيين في سورية: "أبناءُ القيامة".
وإنَّه من الأهمِّيَّة على جانبٍ كبير أن نعرف كيف نربط بين هذَين التعريفَين الرَّائعَين: المحبَّة _ وأبناء القيامة. ومن خلال التعريفَين نكتشف دعوتنا أنَّنا أبناء القيامة، ومسؤولون عن قيَم المحبَّة والقيامة. إنَّنا مسؤولون عن قيامة العالم، وعن إشراك العالم في فرح قيامة المسيح، في فرح ولادة وقيامة عالم جديد أفضل.
القطيع صغير وفعله كبير! إنَّه القطيع الصَّغير لأجل القطيع الكبير. وحماية الله للقطيع الصَّغير، هي لأجل خير القطيع الكبير، "لكي تكون لهم الحياة وتكون لهم أفضل" (يو 10: 10).
هذا معنى عيد القيامة! وهذا معنى العبارة الشعبيَّة أنَّ القيامة هي العيد الكبير... وهذا معنى مطلبنا الملحّ المحقّ أن نُعيِّد القيامة معًا كلُّ المسيحيين... والأهمّ من ذلك أن نُعطي كلَّنا معًا شهادةً للمسيح القائم، الأقوى من الموت، والخوف، والألم، والصُّعوبة، والفقر... والتمييز على أنواعه الدِّيني والإثني والقبلي والاجتماعي، وكلُّ ما يُنغِّص حياة النَّاس، لأنَّ المحبَّة والقيامة أقوى من الموت.

معايدة
نتوجَّه بالمعايدة القلبيَّة إلى إخوتنا الأساقفة أعضاء مجمعنا المقدَّس، وإلى إخوتنا وأبنائنا الأحبَّاء الكهنة والكهنة الرُّهبان والمكرَّسين والمكرَّسات في رهبانيَّاتنا الرِّجاليَّة والنِّسائيَّة، وإلى جميع أبناء وبنات كنيستنا الرُّوميَّة الملكيَّة في البلدان العربيَّة وفي بلاد الانتشار، ونرفع الدُّعاء لأجلهم ولأجل جميع المتألِّمين والمتشكِّكين والخائفين والمتزعزعين، ولأجل ضحايا هذه الأحداث المأساويَّة التي تشهدها بلادنا، وبخاصَّةٍ في فلسطين والعراق ومصر وبنوعٍ خاصٍّ في سورية.
وننشد من صميم القلب، ولو خنقت غصَّةُ الألم حناجرَنا، نشيد ظفر المسيح على الموت. فليكن نشيدَ إيماننا ورجائنا ومحبَّتنا: المسيح قام! ونحن سنقوم معه! وعالمنا سيشترك في أفراح القيامة!.
المسيح قام! حقًّا قام!
مع محبَّتي وبرَكَتي ودعائي
 

  • شارك الخبر